كم من مغن ٍّ ينتسب إلى الموجة، التي ظهرت في ثمانينيات القرن السابق، أُحتسـِبوا على الفن لخلو الساحة الفنية أمامهم، بعد يـُـتم الأغنية العربية، عقِب رحيل أبائها المتمثلين في جيل العباقرة، الـذين رعوا الأغنية بكل حنان وإخلاص، ونتيجة لمرحلة المخاض التي عقبت رحيل هؤلاء، وبسبب التداعيات السياسية التي مرت بها المنطقة العربية أيضاً - إذ دخلت بعض الأقطار في مفاوضات سلام (استسلام) مضمرة ومعلنة مع الكيان الصهيوني، فتـُوِّجت بمعاهدة (كامب ديفيد) التي ألقت بظلامها على سماء الأغنية العربية، كما في جوانب أخريات من الحياة - تباينت المبادئ والمشتركات بين أبناء الأمة العربية الواحدة، نظراً للهوان الذي أصاب قادتها السياسيين، وللدور الـذي لعبته وسائل الإعلام المشبوهة في تلميع أولئك المحسوبين على الغناء، عند المتلقي، لكل هذه الأسباب مجتمعة، ولغيرها من أسباب أخريات، أراها تأتي ثانوية، ولا ينبغي ذكرها في هذه العجالة، اكتسحت هذه الموجة الهابطة بريادة أبطالها غير الشجعان، الأغنية العربية الملتزمة بقضايا الأمة، فظهر لنا جيلٌ من أشباه المغنين - بعد أنْ حاول كل المخلصين والمحافظين على هوية الأغنية العربية بموسيقاها و مقاماتها ولوازمها، صدّ ما يقدمه هذا الجيل، البعيد كل البعد عن قضايا أمته المصيرية، من غناء مسخ - الذي استطاع بعد ظهور القنوات الفضائية مع بداية التسعينيات من القرن المنفرط، أن يجد له موطأ قدم في الأسواق ووسائل الإعلام المرئية والمقروءة والمسموعة.
وبعد مُضي وقت طويل، وجد له متسعاً، حتى صار لهـذا الجيل شأن في الأقطار العربية كلها، بعد انحدار الـذوق العام، الذي أشرفت عليه الوسائل الإعلامية التابعة للأنظمة العربية، إلى أنْ أضحى البعض من المستمعين، يستقبل هذا الغناء المشوه بكل ترحيب، مع علمه بأنه لا يرقى إلى مصاف ما قد استمع إليه من الجيل السابق، وتربت عليه ذائقته الفنية السليمة، بل إنه تساهل إلى حدِّ التهاون مع هذا الجيل الجديد من المغنين، وإلى درجة أنه تخاذل في مجابهته بأبسط الطرق، ولو بإعابته عليهم أصواتهم السيئة، التي يفترض بأن تكون هي رخصة مرور غنائهم إلى أسماع المتلقي، فجلّ المتواجدين من المغنين الآن، لا يحتكمون على الأصوات الحسنة، ومع كل هذه التنازلات، التي قدّمها المستمعون لهذا الجيل الناهض من أطلال التخاذل والاستسلام، التي تزامنت مع نهاية السبعينيات كما أسلفت الذكر، إلا أنّ الغرور الذي تملك هذا الجيل عماه عن حقيقة السقوط، التي لا محالة من أن يقع فيها يوماً ما، وقد حانت.
إنّ الحملة الإعلامية، التي حشّد لها النظام في مصر ضد الجزائر، إثر انتهاء المباراة التي جمعت بين منتخبي البلدين في السودان، وأسفرت عن ترشح منتخب الثانية على الأولى إلى كأس العالم 2010، هذه الحملة التي تزعمها و ما يزال، من يسمون بالمثقفين هناك، من مغنين و ممثلين وإعلاميين وصحفيين، إنما هي حملة مُضلـِّلة ومفتعلة، بيّنت للمواطن العربي حقيقة صعود هؤلاء، وخاصة منهم المغنون إلى سُدة المشهد الفني في مصر، فطالما أنّ جـُلهم لا يحتسبون - إذا ما أخضعناهم إلى المعايير الفنية الحقيقية المعمول بها - إلى الفن بمسماه الحقيقي، فإني لأتساءل عن السر وراء تلميعهم وتمكينهم من وسائل الإعلام الرسمية، التي كان حرياً بها أنْ تصدّ موجتهم، لا أنْ تقوم بفسح المجال لهم، بإقصاء الفنانين الأكفاء وإبعادهم عن المشهد الغنائي، الذين هم الأولى بتصدره، فلم أعثر في مخيلتي عن تفسير واحد لذلك، سوى أنّ النظام هناك ، ادّخر هذه الزمرة من أشباه المغنين ليوم كهذا، وأيُّ يوم هو؟ ذلك الذي صار فيه الفنـّان فتـّاناً، من دعاة الفرقة وزرع بذور الشقاق، بإشاعة وترويج الأكاذيب ضد مواطن من قطر آخر، يفترض بأنْ يكون من مستمعيه أصلاً، الذين أسّهموا في انتشار اسمه وشهرته وارتفاع أسهمه المالية في السوق الغنائي؛ فقد وجد النظام المصري في هؤلاء المحسوبين جُزافاً وعنوةً على الفنّ، خيراً بل شراً من رجالات الأمن والمخابرات والمسؤولين في حكومته، ليوكل إليهم بحفر أخاديد الفتنة بين الشعبين، بتصريحاتهم النارية.
لقد شاهدت في إحدى القنوات الفضائية المصرية، التي رعت وتزعمت هذه الحملة الخسيسة، صورة ً للمغني "إيهاب توفيق" يقف ضاحكاً ملء شدقيه، وإلى جانبه كان يقف مواطنا سوداني على أرض مطار مدينة "أم درمان" قبل بدء المباراة، رافعاً لافتة خـُطّ على بياضها هذه العبارة "أنا وأخي ضد إبن عمّي" في إشارة منه إلى أواصر الأخوة التي تجمع بين أفراد الشعب العربي الواحد في مصر والسودان، واعتبار الجزائريين أبناء عمومة و كفى، في شكل استفزازي، يشي بتحالف الأولين ضد الأخيرين، ففي ذلك عنصرية صارخة، و لأني لست ممّن يلقون بالشبهات، فربما لم تروا الصورة التي حدّثتكم عنها، لكنكم بكل تأكيد قد سمعتم المغني "محمد فؤاد" وهو يتهكم على أبناء الشعب الجزائري وينعتهم بالبرابرة معتقداً بغبائه، بأنّ البربر هم أنفسهم البرابرة، ثم يهدد - هو و سابقه ضمن مجموعة من أنصاف وأرباع المغنين - الجمهور هناك بحرمانه من أعمالهم، التي إنْ أوفوا جميعهم بوعدهم، سيكونون قد فعلوا ما هو أسلم للأغنية العربية، فبمقاطعتهم هذه، سيتخلص الجمهور في الجزائر من هذا الغناء الهابط، الذي شوّه الأغنية العربية التي ستتخلص من شوائبه حتماً ذات يوم، لتعود إلى صحتها وسابق أمجادها، التي أوقن بأنه بمجرد أن يحدث ذلك، ستتلاشى أعمالهم سريعاً، ولن تصبح أبداً من الموروث العربي الغنائي، حيث سيمحى من سجل الغناء العربي، الفترة التي تصدر فيها هؤلاء الساحة الغنائية العربية، ويُضرب صفحاً عن كل صفحة تلوثت فيه بما غناه هؤلاء، وتبقى كل تلك السنين، التي سُنحت لهم، فترة ملغية و غير محسوبة فيه، بعد تمزيقها.
أولم يكن الأجدى بهم، أنْ ينأوا بأنفسهم عن كل هذه المهاترات التي لا معنى لها، إذا كانوا بحقٍّ ملكاً للمستمع العربي وملكاً لذواتهم، فهذا الشيء غير الوحيد الذي لم يـُقدِم عليه موسيقار الأزمان "فريد الأطرش" الذي بعد أنْ ضـُيق على فنه في مصر، ارتحل إلى لبنان ماسكاً لسانه عن أيِّ تصريح لأيِّ وسيلة إعلامية، لأنه لا يودُّ أنْ يُسيء إلى بلد لاقى فيها كل الحفاوة والترحيب من أهلها، حيث إنّ الشعب المصري قد سانده وصفق لأنغامه، فلم يسمعوا منه، منذ خروجه وحتى عودته إلا أغنيته ذائعة الصيت (سنة وسنتين) التي ما تزال الأجيال ترددها إلى سنتنا هذه، فلم يبخص دماً لشهيد و لم يطعن في شرف حرائر العرب، و ما دمنا في سيرة هذا الفنان الكبير، ما رأيكم الآن، في أنْ ننصت إليه وهو يتغنى برائعته (وردة من دمنا) التي استحضر فيها الشاعر العربي اللبناني الكبير "بشارة الخوري" شخصية لامرأة عربية، ليخاطبها قائلاً:
نشيد: وردة من دمنا شعر: الأخطل الصغير (بشارة الخوري) لحن وأداء: فريد الأطرش
سائلي العلياءَ عنَّا والزمانا .. هل خفرنا ذمَّةً مُذْ عرفانا؟ الْمـروءاتُ التي عـاشت بنـا .. لم تزل تجري سعيرًا في دِمانا
ضحِك الْمجدُ لنا لَما رآنا .. بدم الأبطال مصبوغًا لِوانا عرسُ الأحرار أن تسقى العِدى .. أكؤسًـا حُمـرًا وأنغـامًا حزانى ضجَّت الصحراء تشكو عُرْيَها .. فكسَوْنـاهــا زئــيرًا ودُخــانـا مذ سقيناها العُلا من دمِنا .. أيقنت أن مَعَـدًّا قد نَمانا انشروا الْهولَ و صُبّوا نـاركمْ .. كيفما شئتم فلن تلقَوا جبانا
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] شرفٌ للموت أن نُطعِمَه .. أنفسًا جبارة تأبى الهوانا وردةٌ من دمِنــا .. لو أتى النارَ بها حالت جِنانا يا جهادًا صفّق الْمجدُ له .. لبس الغارُ عليه الأرجوانا شرفٌ باهتْ فلسطينٌ به .. و بنـاءٌ للمعـالي لا يُدانى إنَّ جرحًا سال منْ جبهتها .. لثَمتــْهُ بِخُشوعٍ شفتــانـا
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] نحن يا أختُ على العهدِ الذي .. قد رضعنـاه من الْمهـدِ كِلانا يثربُ و القدسُ منذُ احتلمـا .. كعبتانا و هوى العُرْب هوانا قُمْ إلى الأبطال نلمسْ جرحهمْ .. لَمســة ًتسبحُ بالطِّيب يــدانــا قـُم نجُـع يومًـا من العمـر لَهمْ .. هبْهُ صوم الفصح هبهُ رمضانا إنَّمـا الْحقُّ الذي مــاتوا له .. حقُّنا نَمشي إليه أين كانا [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]