آخر كدبة

آخر كدبة

كنت في حوالي العاشرة من عمري عندما أعلنت الجرائد عن وصول مهراجا هندي للقاهرة وطلبه مقابلة فريد الأطرش مع نشر صورة للمهراجا، وفي اليوم التالي قرأنا أن المهراجا يأمر فريد بالغناء وإلا سوف يطلق عليه الرصاص. ثم قرأنا أن هذا جزءا من فيلم فريد الجديد من بطولته مع سامية جمال بالطبع والممثلة الفاتنة كاميليا واسماعيل يس وعلي الكسار وعزيز عثان وسعيد أبو بكر وغيرهم. الحمد لله ، فيلم جديد لفريد الذي عشقته من اللحظة الأولى، وعقب تحفته السابقة " أحبك انت " التي أشجاني فيه بالحياة حلوة ويا فرحة المية والحب لحن جميل وحبيته لكن ما بقولشي وأنهاه باستعراضه البديع عن النغمات الشرقية والغربية، إضافة لامتلائه بالمواقف التي ضخكت لها من القلب، والتي يرع فيها فريد للغاية كممثل عبقري للمواقف الضاحكة، وإن حاولوا إقناعنا وإقناعه هو نفسه أنه لا يفهم في التمثيل شيء، وكفاية عليه الطرب. لم يطل انتظاري لآخر كدبة سوى حوالي أربعة شهور أعلنت بعدها دار سينما الأهلي بالسيدة زينب أن العرض القادم " وكان يوم الاثنين في كل دور عرض الدرجة الثالثة في ذلك الوقت" هو فيلم " آخر كدبة ". وبالطبع كنت أول من زاحم شباك التذاكر في حفلته الأولى في العاشرة صباحا، بعد أن هربت من المدرسة لمشاهدة الفيلم الذي طالما انتظرته وأنا أمني نفسي وأثق أني سوف أسعد كل السعادة بمشاهدته والحكم عليه وعلي أغانيه وأتابع رأي الجمهور فيه. هكذا أنا من البداية، كنت قد أصبحت ناقدا جيدا لكل الأفلام التي أشاهدها، وذلك بعد أن تكونت لدي خيرة النقاد من كثرة ما شاهدت من أفلام زاد عددها عن 500 فيلم وأنا لم أتجاوز السابعة من عمري.

بدأ الفيلم بما يظهر بكل وضوح غيرة سامية جمال الشديدة علي زوجها فريد الأطرش، وهما يعملان سويا في تياترو خاص بهما تقريبا ويعمل معهما اسماعيل يس كمونولوجست، قدم أحلى مونولوج في حياته أيضا فيه وهو " الكدب " كلمات معبرة لاذعة هن الكذب وعواقبه وعن النساء المدافعات عن الكذب ورد اسماعيل عليهم، ألحان ونغمات فريد جسدت معاني الكلمات بكل حلاوة وإتقان وانفراد ، وكان إخراج الأغنية بديعا علي المسرح، وتظهر كاميليا لفريد في مقر عمله لتغازله بشدة رغم علمها بأن فريد متزوج من سامية جمال الغيورة جدا وأن فريد نفسه لا يحب سواها، ويخشى ردود فعلها بشدة إذا غضبت منه رغم حيها الجنوني له، ويصدح فريد بأول لحن راقص له في الفيلم، وتؤدي سامية رقصتها بكل توافق وانسجام مع لحن فريد البديع وهو يردد " وسلامه فرحت له .. " وعلمت بعد ذلك مع غيري من المصريين أن الملك فاروق أمر بمنع إذاعة هذه الأغنية لأن فريد غناها خصيصا ليغيظ بها الملك معتبرا إياه من " العوازل " ويظهر المهراجا الهندى ومرافقه بصحبة كاميليا ويدعون فريد لحفلة في حديقة أحد القصور رلبما، وهناك يأمر المهراجا فريد بالغناء بناء علي رغبة كاميليا، فيفاجئنا فريد بتحفة نائية عاطفية عالمية يوجه كلماتها لزوجته وحبيبته التي يحمل صورتها معه رغم رقصات كاميليا الساحرة علي أنغامها الساحرة أيضا. وكانت هذه الأغنية في نظر عبد الوهاب هي أحلى ما غنى فريد في حياته، لحنا وأداءا. وتعود سامية التي كانت قد سافرت لزيارة أمها في نفس يوم السفر لتعرف أن زوجها بات بالخارج، وعبثا يحاول فريد كذبا إقناعها بأنه لم يخنها ولم يفعل ما يؤذيها مستعينا باسماعيل يس جاره في السكن أيضا، والذي لا يحب الكذب ويعتبر أن الصدق مانجو " وليس منجي " كما قرأ في اليافطة المعلقة، ويؤدي فريد دور شمشون ليقنع سامية أنه كا يشاهد رواية له بالأمس، وكم كان رائعا ومقنعا وعملاقا وهو يقول " علي وعلى أعدائي يا رب " . " وتقتنع سامية بأنه يكذب عليها وتستعد لمغادرة المنزل ، ويحاول فريد إرضائها فيلمأ لصوته الحنون ولحنه البديع " أنا عارف إني مهونش عليك " في محاولة منه لإقناعها بعدم الرحيل، كمما فعل من قبل في " حبيب العمر في رائعته االخالدة " قوليلي إيه أقول لك " ، وفريد هنا يقدم لحنا سلسا شجيا يفيض بالعاطفة الفريدية وهو يشدو " كده برده تنسى .. " و " حرمت أداري وأخبي عليك " والموسيقى الحالمة التي تلي هذه الكلمات. الله .. الله يا فريد .. ما أعذب غنائك وعواطفك الفريدية التي لا تضاهى.

وتعود سامية ويعودان للعمل علي المسرح فيقدمان معا استعراضا خلابا يبدأ بمواله الأشهر " أكل البلح حلو " ويتبعه بأغنيته الصعيدية المصرية الشعبية الخالصة " منخبيش عليك " ويذيبنا فريد عشقا وطربا وهو يردد " يوم عني تغيب يبجي يوم صعب " وتحاول كاميليا وهي " مستعجلة قوي" كعادتها استرجاع العقد من فريد بلا فائدة وينجو فريد من محاولة عمة اسماعيل يس القبض عليه بتهمة تكسير ضلوعها في الأتوبيس وكم أضحكنا اسماعيل يس في في أول ظهور له كعمة اسماعيل يس صديق فريد بعد حادثة الأتوبيس هذا في بداية الفيلم التي أبدع محمد القلعاوي والد محود القلعاوي في تقمص دور سائق الأوتوبيس المجنون فيها،ومقابلته مع جمالات زايد الخادمة ورغيها الذي لا حدود له معها ومع ذلك يختتم حديثه معها قائلا " جتك البلا وانت مبتبطليش رغي ومخلياني مش عارفة أقول ولا كلمة " وينتهي الفيلم بعد اكتشاف أن المهراجا لم يكن سوى لص محترف وأن رفيقه ضابط متخفيا للقبض عليه، وبعد أن يسحرنا فريد بأوبريت ليس ككل الاستعراضات السابقة واللاحقة له، أوبريت جمع فيه فريد كل الشعوب العربية ووحد بينها وأشاد بأمجادها فجعل قلوب كل العرب تلتف حوله ولا تعترف إلا به مطربا وموسيقارا عربيا عالميا " وهكذا كان " بساط الريح " ولا يزال.

ويعود الحب والوئام بين فريد وزوجته سامية ، وأخرج أن من السينما وقد ارتويت فنا وحبا وهياما بالفيلم وبطل الفيلم حبيب العمر كله، وأخذت أترقب ظهور فيلمه التالي علي نار .

أواصل حكاياتي مع فريد الأطرش كلما سنحت الفرصة لي بذلك إذا كان في العمر بقية إن شاء الله.