26 / 12 / 1974 م
اليوم المشؤوم فى تاريخ الموسيقى العربية والعالمية
مرت أيام وسنوات على ذكرى رحيل الموسيقار الكبير والمطرب العظيم فريد الاطرش وهو الفنان الخالد الذي نال التكريم من معظم ملوك ورؤساء العرب ، وهذا بجانب حصوله على جنسيات لدول عربية عديدة . كما كرمته جمعيات عالمية كثيرة .. وهو الذي قال في اغنية سنة وسنتين: الوطن العربي بلادي امي وابويا واجدادي .. ولهذا كله وجدت وجوب التوقف والتمعن في مسيرة حياته وهو الفنان الشرقي الاصيل ، ولأن في البدء كان الكلمة فسأقف أيضا عند الكلمات والشعراء الذين لحن اشعارهم وتغنى لهم .. ولهذا ايضا أحب أن أضيف أن الكلمات التي غناها دليل على حسه المرهف ، وتذوقه لمعنى الكلمة .. فالإعلام دائما يتكلم عن حسن إختيار أم كلثوم لكلمات أغانيها .. هذا صحيح ولكن أم كلثوم كان حولها مدرسة من الشعراء والأدباء والموسيقيين ، ليعلموها ويساعدوها على الإختيار في بداياتها ، وحتى آخر حياتها كان أحمد رامي على رأسهم
ولكن ما هو غير معروف هو أن فريد نحت في الصخر، ولم يجد من يقف بجانبه أو يساعده على الإختيار ، ولكن بالرغم من هذا كل أغانيه وقصائدة كانت على مستوى عالي وأجاد الاختيار ، وجعل من نفسه وحده مدرسة في الذوق الرفيع .. فهو أيضا بلا شك رمز للكفاح .. كما سأتوقف عند من لحن لهم من المطربين وعند بعض من أعماله لأن هناك أعمال له ، لم تذكر بالرغم من أنها أعمال فنية عالية القيمة وتستحق التقدير وهذا ما يحتم علينا القاء الضوء عليها .. وهو في حد ذاته يعتبر شخصية مليئة وغنية بالاعمال ، والتاريخ يجب أن يتوقف عندها حتى أن نعيد ذكرى هذه الاعمال لتعرف الأجيال الصغيرة - من هذا العظيم ؟ وهو الذي كان وما زال له جمهور من المحيط الى الخليج وفي بلاد المهجر ، بالرغم من مرور سنوات على وفاته وقد رحل في 26 / 12 / 1974 م وكل هذا بجانب تقدير العالم له
وفريد عانى كثيراً في طفولته منذ انتقال عائلته الى مصر، وفي الكبر ظل يعاني ويعمل من اجل العائلة وكان متعلق بأخته اسمهان بشدة حيث ترك موتها جرحاً كبيراً في اعماق قلبه لم يداويه الزمن .. ولكن كل هذه الاحداث التي مر بها كانت عوامل في نجاحه .. وأحب أن أقول أن كل العظماء كان لهم عامل مشترك وهو المعاناة لأن العظمة لا تأتي من فراغ .. ومعاناته هي ما جعل في صوته نبرة الحزن وجعلنا نلمس صدقه عندما يغني الاغاني الحزينة .. وعندما غنى الحزين ابكانا ، في حين أنه عندما غنى المفرح أبهجنا
أيضا هو الموسيقار الذي وصل الى العالمية بموسيقاه الساحرة بدون أن يذهب لأحد بل موسيقاه الساحرة والأصيلة هي التي حملته الى العالمية على بساط من الريح وعبقريته فرضت نفسها .. غنى مطربون من روسيا وفرنسا وامريكا الجنوبية أغاني له منها يا زهرة في خيالي وياجميل ياجميل وقلبي ومفتاحه وغيرهم من أغانيه الجميلة .. وايضا وزعت أغاني له كمقطوعات موسيقية مثل بنادي عليك واياك من حبي بجانب مقطوعاته الموسيقية مثل زمردة على أيدي موسيقيين عالميين
وللأسف لم يجد فريد حتى الآن ما يناسبه من تكريم في عالمنا العربي ولم يتطرق الكثير لنقطة وصوله للعالمية بل في بعض الأحيان يتجاهلها البعض وإن كان عن عمد وحاول آخرون من الملحنين الوصول للعالمية ولكن بدون جدوى لأن األحانهم لم تكن أصيلة مثل الحانه ، حيث عرف عنه بالشرقية الأصيلة
فهو أول من غنى للعالم العربي والوحدة العربية في أوبريتات مثل بساط الريح أو الشرق والغرب وغيرهم وأيضا غنى الأغنية الجميلة الوطنية من كلمات حسين السيد وهي المارد العربي ومن أبياتها ما يلي:
المارد العربي في العالم العربي
وطنه في كل مكان في دجلة في عمان
في مصر في لبنان والمغرب العربي
وأيضا عزفه على العود كان ساحراً وحصل على عدة أوسمة وجوائز وحاول البعض لينال الشهرة التقليل من قيمة فريد في العزف على العود المعروفة وكان فريد حريص على تقديم تقاسيم للعود في مقدمة معظم أغانيه في الحفلات العامة ونبوغه في العزف ما جعله ملحن مبدع ، ولذلك لم يقتبس لحنأو يسرق جملة
وتقدمت الموسيقى العربية على يديه وكان أول من حرصوا على التوزيع الموسيقي وإدخال الالات الأجنبية لخدمة اللحن وتطوير الموسيقى العربية .. بالرغم من أن نسب لغيره فيما بعد كل ذلك .. وكانت موسيقاه متأثرة بنشأته وعلمه معاً .. ففي مصر دخل مدرسة القديس يوسف للفرير بالخرنفش والتحق فيها متخفيا في إسم عائلة كوسة المسيحية حتى لا يعرفه الفريرات .. وكان إسمه الفريد كوسة .. بما انه دخل المدرسة كمسيحي فتعلم الغناء فيها في شكل الترتيل الكنسي عندما وجدوا فيه الموهبة وجعلوه يقود الجوقة في كنيسة المدرسة .. وهذا بجانب ما تعلمه من أمه علياء المنذر بجانب العزف على العود
ونجد مثلا في أغنية لحن الخلود وألحان أخرى تأثره بالألحان الكنسية وبالذات في الطقس اللاتيني ، ولم يكن هذا التأثير تقليد أو إقتباس في حين نجده يلحن أغاني إيقاعها من الفلكلور اللبناني مثل اشتقتلك أو لكتب عاوراق الشجر وغيرهم من الحان أخرى
ذكرنا في البداية أن فريد كان له حس جميل في إختياره لكلمات أغانيه ولذلك غنى القصائد الفصحى ومن الشعراء الذين غنى لهم - الشاعر الكبير الاخطل الصغير بشارة الخوري ومما غنى له هو اضنيتني بالهجر وعش أنت وأيضا القصيدة العظيمة وهي وردة من دمنا التي غنى فيها عن فلسطين ولم تنل حتى الآن الإهتمام بالرغم من ما تحمله من معاني وجمال في الكلمات والحان فريد الفريدة تتوج هذه الكلمات العظيمة .. واخترت من أبياتها الأبيات التالية:
سائلي العلياء عنا والزمانا هل خفرنا ذمة مذ عرفانا
المروءات التي عاشت بنا لم تزل تجري سعيرا في دمانا
ضحك المجد لنا لما رآنا بدم الابطال مصبوغا لوانا
انشروا الهول وصبوا ناركم كيفما شئتم فلن تلقوا جبانا
شرف للموت ان نطعمه انفسا جبارة تأبى الهوانا
وفي النهاية يقول:
قم نجمع يوما من العمر لهم هبه صوم الفصح هبه رمضانا
وغنى لشعراء آخرين مثل مأمون الشناوي وغنى له حكاية غرامي وبنادي عليك ونجوم الليل والعديد من الاغنيات الأخرى التي إرتقت بالعامية ولا ننسى أغنية ادي الربيع وهي الأغنية التي ما زالت تغنى حتى الآن في عيد الربيع بالرغم من مرور أكثر من ستين عاماً .. وحاول الكثير تقليد فكرة الفصول الأربعة أو الغناء للربيع ولكن لم ينجح أحد في منافسة هذه الأغنية الخالدة التي لم تكرر حيث الخلط بين وصف الفصول مع الأحاسيس العاطفية وتشبيه ما يمر به الحبيب بالفصول
وكان هذا بجانب أغاني كثيرة لمأمون الشناوي .. ولفريد أغنية من أشهر أغاني المناسابات هي أغنية زفة العروسة التي ما زالت تغنى في كل زفاف وهي دقوا المزاهر لفتحي قورة، وهو من شعراء العامية الذين كان لهم نصيب كبير في التعامل مع فريد في أغاني كثيرة ، ومنهم اتقل اتقل وعلشان ماليش غيرك ويا حليوة
وبمناسبة يا حليوة ففريد كان يعتبر هو الذي إرتقى بالأغنية الشعبية كلمات والحانا وقدم الكثير من الأغاني الشعبية العظيمة ومن الشعراء الذين غنى لهم أغاني شعبية أيضا هو عبد العزيز سلام وقدم فريد الأغنية في إيقاع راقص شرقي حتى تتراقص عليه أشهر الراقصات في العالم العربي ومنهم أولا تحية كاريوكا ثم محبوبته سامية جمال ونادية جمال وليلى الجزائرية وكيتي ، وحتى الآن العديد من الراقصات يرقصن على أنغامه الشرقية الجميلة
ومن الشعراء الذين غنى لهم فريد أيضا هو يوسف بدروس وهو من أصل لبناني .. كان يعيش يوسف في مصر وكان صديقا له وشاركه في بداياته واستمر التعاون بينهما بالعديد من الأغاني والقصائد .. ويوسف أيضا للأسف لم ينل ما يستحقه من تقدير بالرغم من عبقريته في الكتابة وكتب لفريد ولأخته اسمهان العديد من الأغاني الرائعة ، ومن ضمنها أغنية الفجر والغروب في فيلم انتصار الشباب وغناها مع أخته ومن الأغاني الفردية أغنية بحب من غير امل ويا حبيبي طال غيابك وأيضا من القصائد قصيدة يا نسمة تسري وهي تقول:
يا نسمة تسري الى ديار الحبيب
احكي له سري وكيف احيا غريب
يا انهرا تجري الى رياض الجمال
كم مدمع يجري حتى غدوت خيال
كم من معاني وبلاغة تحمله هذة القصيدة فكل بيت يحتاج لوقفة وتأمل وإذا إستمعنا لها بلحن العبقري فريد الأطرش نندهش لهذا الجمال وهذه العبقرية .. ومن الشعراء الذين غنى لهم فريد هو الشاعر العبقري بيرم التونسي بالرغم من تجاهل الإعلام الكلام عن تعامل فريد مع بيرم .. فمن المتعارف عليه هو أن بيرم تعامل مع سيد درويش وزكريا احمد ، ولكن نادرا ما يذكر تعامله مع فريد .. فكتب بيرم لفريد الكثير من الأغاني التي ما زالت تردد حتى بعد مرور سنوات طويلة ومنهم احبابنا يا عين وحبيته ولكن مابقلش ويالله توكلنا على الله ومنخبيش عليك بجانب اوبريت بساط الريح الذي تحدثنا عنه في البداية .. وأغنية هلت ليالي حلوة وهنية التي ما زالت تغنى في شهر رمضان ، بجانب الكثير من الاغاني وهناك أغنية أخرى أريد أن نتوقف لها لأن بها صور بديعية كثيرة وتستحق التأمل وهي أغنية يالله سوا وفيها العبقري يقول:
يا لله سوا للربيع نقطف ازاهيره يا لله سوا للقمر نرقص على نوره
يالله سوا للنسيم نخطر على سيره
يا لله سوا الطيور صابحة تنادينا نسمع غناها وتسمع من اغانينا
ثم نأتي إلى شاعر الشباب أحمد رامي وما لا يعرفه البعض هو أن احمد رامي لم يتردد أمام موهبة فريد الفذة ليكتب له ولاخته بالرغم من صداقته المعروفة لام كلثوم .. ليالي الانس في فيينا وهي من أروع الأغاني على الإطلاق هي من شعر احمد رامي وغنتها اسمهان بصوتها الساحر وهي من الحان فريد وهذا بجانب اوبريت ليالي الاندلس في فيلم انتصار الشباب والجن في فيلم عفريتة هانم .. وأغاني أخرى وقصائد عظيمة .. واحب هنا أن القي الضوء على قصيدة هامة من قصائد رامي وهي يا منى روحي سلاما ومن ابياتها ما يأتي:
يا منى روحي سلاما من غريب يرسل النجوى الى دار الحبيب
حكم الدهر علينا بالنوى وغدا الحزن على الماضي نصيب
انا في الدنيا شريد هائم وفؤادي من جواه في لهيب
وأيضا غنى فريد للعديد من شعراء العامية والفصحى اللبنانيين حيث ابدع في الالحان الفلكلورية ذات الايقاع اللبناني ومن الشعراء هم توفيق بركات الذي غنى له حبينا حبينا وهي اغنية رائعة. كما غنى لميشال طعمة بتؤمرعالراس وعالعين وفوق غصنك يا لمونة وغيرهم من الاغاني الجميلة .. ولا ننسى عبدالجليل وهبة حيث غنى له اشتقتلك ويا مدلع يا حلو وثلاثين يا حبييبي، ونأتي لاروع الاغاني والاناشيد الوطنية وهي يوم الفداء ومنها الابيات التالية:
شعبنا يوم الفداء فعله يسبق قوله
لا تقل ضاع الرجاء ان للباطل جولة
ما للعدوان مقر والوغى كر وفر
نحن للتارخ امجادا بنينا ورسالات الهدى بين يدينا
وعلينا الآن أن نتوقف عند المطربين العظام الذين لحن لهم فريد وتعتبر الحانه هي محطة هامة في حياتهم وسبب نجاحهم وإضافة لتاريخهم واولهم اخته اسمهان ولحن لها معظم اغانيها وكما ذكرنا أغنية ليالي الانس في فيينا ويا بدع الورد وياليالى البشر واهوى وغيرهم ويعاد غناء معظم هذه الأغاني بأصوات جديدة حيث تحاول المطربات اثبات قدراتهن في الغناء. ولحن فريد للمطرب الكبير وديع الصافي اغنية على الله تعود. والمطربة الكبيرة شحرورة الوادي صباح كان لها ايضاً نصيب كبير من الحانه حيث غنت له من اروع الالحان مثل زنوبة ويا دلع والاسوارة وحلوة لبنان وما غنته لابنتها مثل حبيبة امها واكلك منين يا بطة بجانب ما غنته للوحدة بين مصر وسوريا مثل حموي يا مشمش ومن الموسكي لسوق الحميدية. ولحن للصوت البديع نور الهدى اغاني مثل يا ساعة بالوقت اجري. ولحن لعصام رجي - الاغنية الشعبية الجميلة وهي هزي يا نواعم فما زالت اشهر الراقصات يرقصن على انغامها. وايضا لحن لمحرم فؤاد يا وحشني رد علي .. كما كان مبدع في الالحان الكلاسيكية ومنها ما لحن لعادل مأمون وهي اغنية انت وحشني .. وفهد بلان غنى له شوي شوي وماقدرش على كدة والمطربة الكبيرة سميرة توفيق بيع الجمل يا علي وغيرهم من المطربين والمطربات الكبار .. فهذا كان فقط مروراً سريعاً على حياته وبعض من تراث هذا الفنان الذي يستحق أن يكتب عنه مجلدات: للأسف الدراما التليفزيونية حتى الآن لم تقدم حياته الغنية بالأحداث التاريخية والكفاح الحقيقي فحياته واعماله مدرسة حقيقية .. رحم الله هذا الفنان العملاق الذي عزف على العود فجعله ينطق , غنى فسحر القلوب , لحن فجعل النغمات اداة لإستيعاب الكلمة من القلب إلى القلب , فهو الذي عاش وحيداً وغرد فملأ الوجود تغريداً.