الغناء حتي آخر.. دمعة
د. نبيل حنفي محمود
كانت الساعة تشير الي التاسعة من مساء الخميس 9/12/2004م، عندما كنت أسير في شارع الجلاء بمدينة شبين الكوم وقريبا من مبني محافظة المنوفية، التقطت أذناي صدي صوت مزمار بلدي يتردد في فراغ الشارع بين مبني السنترال ومبني المحافظة، مضيت في سيري... لأجد جوادين يرقصان في حفل عرس قريب من مبني المحافظة، تحلقت بالجوادين مجموعة من الشباب والأطفال، والجميع يرقصون علي لحن... تبينت أنه لأغنية المطربة صباح الشهيرة: "يادلع"، تلك الأغنية التي كتب كلماتها الشاعر اللبناني توفيق بركات وصاغ فريد الأطرش لحنها من مقام الراست الشرقي الأصيل، ولتغنها صباح بدءا من شهر مارس 1974 في أحداث مسرحية " ست الكل"، تلك الأغنية... ينطق المزمار لحنها الآن ـ وبعد ظهورها بثلاثين عاما ـ نطقا موسيقيا شرقيا مبنيا لا شبهة لعجمة أو انتحال فيه، فيتفاعل مع اللحن من ولد بعد إطلاقه من صبية وشباب، لبساطته وصدقه وشعبيته التي لامست أعماق نفوسهم.
فوجئ الاستاذ الدكتور/ محمد أبو الفضل: أستاذ ورئيس قسم الأراضي بكلية الزراعة جامعة المنوفية، زميل العمل الجامعي الآن وزميل الدراسة في مراحل الابتدائي والإعدادي والثانوي، فوجئ الدكتور أبو الفضل في أحد أيام صيف عام 1978 بالسيدة الروسية، التي كانت تلقنه ومجموعة من المبعوثين المصريين والعرب مبادئ اللغة الروسية، وقد حملت الي قاعة الدرس ذات يوم إسطوانة رفعتها باعتزاز أمام أعينهم، قالت المدرسة الروسية ـ وبعد أن أصبح التفاهم بينها وبين طلبتها من المبعوثين ممكنا باللغة الروسية: إن هذه الاسطوانة ملك لأبي وهو يحبها ويعتز بها كثيرا، وأضافت السيدة الروسية: إنني أستمع مع أبي الي لحن هذه الإسطوانة قبل سنوات طويلة ولاأعرف معناه، فهل يعرف أحد منكم هذه الأغنية ويتفضل بترجمتها الي الروسية؟، يقول الدكتور أبو الفضل إنه ذهل عندما أدارت السيدة الروسية الاسطوانة، فإذا بالمبعوثين المصريين والعرب يستمعون الي قصيدة فريد الأطرش المعروفة:" يازهرة في خيالي"، ولكنها مسجلة بصوت مطرب روسي علي الاسطوانة، وبالرغم من عربيته الركيكة التي تظهر حرف (الهاء) وكأنه (خاء)، إلا أن المطرب الروسي أجاد في غنائه للقصيدة حتي الموال الذي جاء في البيتين الأخيرين منها، ولم يكن الدكتور أبو الفضل وحده الذي عاد من الاتحاد السوفيتي السابق ليتحدث عن لحن فريد الأطرش الذي سمعه هناك، وإنما تحدث بذلك عشرات من الدارسين في الاتحاد السوفيتي... في لقاءات خاصة مع كاتب المقال أو في أحاديث صحفية أو إذاعية، وممن تحدثوا عن ذيوع قصيدة " يازهرة في خيالي" في الاتحاد السوفيتي السابق... الصحفي والكاتب الراحل/ فوميل لبيب، الذي يذكر في أحد مقالاته أنه اشتري نسخة من الاسطوانة الروسية لأغنية " يازهرة في خيالي" من متاجر "جوم" الشهيرة في مدينة موسكو، إن أغنية " يازهرة في خيالي" التي كانت إحدي أغنيات فيلم فريد الأطرش السادس: "حبيب العمر"، الذي عرض للمرة الأولي في 15/3/1947م، إنطوت تلك الأغنية علي عنصر الحداثة ممثلاً في صياغتها من مقام النهاوند وباستخدام إيقاع التانجو الغربي الذي تألفه آذان الناس في الاتحاد السوفيتي وكثير من دول الغرب.
يلخص الموقفان السابقان وبوضوح لاتعلق به شائبة السمة الرئيسية لإنتاج فريد الأطرش الغنائي والموسيقي، تلك السمة التي تتبلور فياإمتزاج عنصري الأصالة والحداثة في هذا الإنتاج، مما جعل ذلك الإنتاج مرشحاً للخلود في ذاكرة جموع البسطاء من الناس وهم غالبية الشعب المصري والعربي، ومرشحا بنفس القدر ليعبر حدود موطنه ليصل الي أسماع الشعوب الأخري، تؤهله لذلك أصالته في المقام الأول وقرب صياغته وإيقاعه من أذواق مستمعي تلك الشعوب.
(((((((((( منقول )))))))))))))))