هناك ُثلة من المغنين ، تظن بأنّ أية أغنية ُطرِزت كلماتها على نسيج ُقماشة اللغة العربية الفصحى ، تصيرُ قصيدة ًغنائية ً، هكذا بكل سهولة ، ومن دون أنْ يتعايش المُغني مع مفرداتها ، ويتفهّم معانيها ومراميها ، فمن ضمن من تحوّل إلى محاولة
أداء هذا النمط الغنائي الراقي بعضٌ من مغنيي اليوم ،نتيجة لاتساع الساحة أمامهم - بعد جفاء المطربين لهذا الأداء ، لعلمهم بصعوبته ، وبالمهارة التي يتطلبها بعد زوال جماليات الصوت لديهم ، لا سيما وأنّ أغلبهم صار في أرذل العمرـ ولحدسه بأنّ ما قدّمه هو وغيره من ألوان غنائية ، سوف لن يجعل له وزناً في تاريخ الغناء العربي المعاصر، ما لم يدلُ بدلوه في هذا الشأن ، فانصب اهتمامه على دواوين الشعراء ، الذين تغنى بروائعهم المطربون الأوائل مثل " نزار قباني " وغيره من شعراء ، فأخذ بذلك من فنّ ( القصيدة الغنائية ) اسمها من غير صفتها ، من دون أن يدرك أنها ستصبح قصيدة فقط ، طالما أنه لم يعد لها اللحن اللازم ، متكئا ً على شهرة الشاعر، وعندما قام بتنغيم هذه القصائد ، قدّم للمستمع أعمال عبارة عن أغاني خفيفة و راقصة ، هي أقرب في موسيقاها إلى ( الطقطوقة ) ذات الجملة الموسيقية الواحدة ، المتكررة بعد كل ( كوبليه ) فلا تتصف البتّة بمفهوم القصيدة الغنائية المُتعارف عليها في العقود الماضية ، فقد كان الجيل الرائد ، ممّن أسهموا في تطوير الأغنية العربية عبر عقود طوال ، وبعد أنْ أثبت جدارته في غير لون من ألوان الغناء العربي ، قد أسهم أيما إسهام ، في وضع ركائز القصيدة المغناة ، بعد اندثار الإنشاد بالعربية الفصحى ، وتلحين اللهجات المتعددة بتعدد الجهات والأمصار ، التي آل إليها الكيان العربي ، بعد سقوط دارالخلافة الإسلامية ، منذ ما يقارب الثمانية قرون ، اللهم إلا إعادة تقديم بعض الموشحات التراثية ضمن الفرق العربية المعروفة في كل قطر عربي ، حيث صار لهذا اللون ( القصيدة المغناة ) متخصصون ينشدونه في شكل جماعي ، يتعفف المطربون الكبار من تقديمه ، أو دعوني أقول يتهربون من ذلك ، ذلك أنه بحسب رؤاهم ، سوف لن يضفي لمكانتهم شيئا ً ، إذ أنهم بذلك ، سيكونون كما أية موهبة غنائية ، تتربى على أصول الغناء العربي الصحيح ، وهي تشقُّ طريقها إلى عالم الغناء ، و مع ذلك تيقنوا بأنهم مطالبون بتقديم شيءٍ من هذا اللون الغنائي ، الذي فقدته الأذن العربية في العصر الحديث ، وما ساعدهم على القيام بذلك ، أنّ أغلبهم قد تمكّن من ناصية اللغة عن طريق المدارس القرآنية ( الكتاتيب ) و استقى منها بحور الشعر و حفظ كماً كبيراً من قصائد الشعر المعروفة في العصرين الجاهلي و الإسلامي . ــ( موسيقار الأزمان فريد الأطرش )ــ كان ذلك فيما يخصُّ اللغة ، وإجادة أحكامها لجهة الإعراب والنطق ، وفنون التجويد من إدغام وغـُنـّة وقلقلة وما إليها من أحكام أخريات ؛ صحيح أنّ بعضا ً ممّن اتجهوا إلى تقديم القصيدة المغناة ، هم على درجة عالية من الفصاحة اللغوية ، ولديهم إلمام كبير بأصول اللغة العربية ، لكن المشكلة وما يعوزهم لا يكمنان هنا ، حيث إنّ تلحين القصائد يستلزم برأيي ، أنْ يكون الملحن ذا إحساس كبير بالمعنى وعلى معرفة كبيرة بمقامات الموسيقا العربية ، حتى يستطيع أنْ يوصل فكرة العمل إلى المتلقي بأذنيه و عينيه و عقله على حدًٍّ سواء ، فلا يركز على جارحة واحدة من جوارحه ، بل يتعين عليه أنْ يعمل بتزامن على إشباع هذه الحواس جميعها من الوجبة الطربية التي يقدّمها له ، وهذا لا يتأتى له ، إلا بالجمل الموسيقية المتسقة مع المعنى اللغوي لكل بيت من أبيات القصيدة ، فكم من قصيدة لم يقرأها المستمع و تعرف إليها من خلال اللحن المغنى فأحبها و راقت له ، لأنّ اللحن هو من يقدّم القصيدة على نحو صحيح ، وبأبعادها كلها ، خصوصاً تلك القصائد ذات الزمن الغنائي القصير، الذي في الغالب يقارب العشر دقائق ، ففي مثل هذه القصائد يجنح الملحن إلى تنضيدها بحشد كبير من الجمل الموسيقية المتنوعة ، التي يساعده في إظهارها للأسماع معرفته بالمقامات الموسيقية المتباينة ، وما يلحُّه عليه المعنى العام للمفردات ، سواء أكان طابعه الحزن أو الفرح . وما دُمت بصدد الاهتمام بما جاد به الفنان الكبيرـ( فريد الأطرش )ـ من فنون غنائية ، وما آثر به مكتبتنا وموروثنا العربي الغنائي من روائع وبدائع ، ارتأيت في هذا المقال ، أنْ أبرز و ألفت عناية القارئ و المستمع معاً ، إلى دوره الكبير في تطوير القصيدة العربية المغناة ، إذ أنه قدّم ما في وسعه و فنه ، لهذا النمط الغنائي الرصين ، فقد لحّن في بدايته عام 1937 ميلادياً ، قصيدة تحت عنوان : ( ختم الصبر ) كانت دليلاً على تفتق عقلية جديدة في تلحين هذا الضرب الغنائي ، فكانت في حين ظهورها ، طفرة في هذا المجال الغنائي الصعب ، ما جعل المستمع ، الذي يتمتع بذائقة موسيقية فائقة ، يراهن عليه في تطوير فنّ القصيدة إلى جانب الموسيقار " رياض السنباطي " و الموسيقار " محمد عبد الوهاب " ولكن بنكهة أخرى ، فقد كان لحن هذه القصيدة مغايراً ، لما قدّمه الأخيران من ألحان تنضوي تحت لواء القصيدة الغنائية الحديثة آنذاك ، فشكّل الزاوية الثالثة والضلع الثالث من ثالوث أو مثلث التطوير بجدارة ، حتى أنّ الموسيقار" رياض السنباطي" أشاد بتلك القصيدة ونعتها بما ذكرته لكم ، من دون أدنى إكراه ، و هو من هو في هذا المجال . وبعد هذه القصيدة اتبعها بدُرر ٍمن القصائد المشهورة له ، التي انتقل بها إلى مراحل متطورة جداً من الحسن في اللحن والغناء و الأداء ، أمثال : ( عش أنت ) و ( أضنيتني بالهجر ) للشاعر" بشارة الخوري " وقصيدة ( لا وعينيك ِ) التي نظمها له الشاعر والزجّال الكبير " كامل الشناوي " و رائعة ( يا زهرة في خيالي ) هذه القصيدة التي وصلت إلى العالمية ، حيث غنّاها أكثر من مغنٍّ عالمي باللغة العربية مجاريا ً الفنان الراحل ، في صوته و طريقة أدائه ، حرفيا ً وشكلياً ، فمن الجميل في الفكرة ومن جميله علينا ، أنه جعل أولئك الفنانين ، الذين ينتمون إلى أمم أخرى ، يتغنون بلغتنا السامية في مفرداتها و معانيها . و من مظاهر التطوير في قصائده هاته ، أنه عرف بموهبة الفنان الحقيقي كيف يصور للمتلقي ، الحدوثة التي تنهض عليها مفردات القصيدة ، من خلال الألحان و ما صاغه فيها من جمل موسيقية عظيمة تعاملت بإتقان ، مع كل حرف على أنه كلمة و لم تتجاهله ، لعلمه المسبق ، بأنّ الحرف في اللغة العربية ، هو من أقسام الكلمة ، ففي قصيدته : ( لا وعينيكِ ) جعل لحرف ( لا ) متسعا ً من الوقت وهو ينطقه مترنماً في مطلع القصيدة ، ثم يرددها وهو على مشارف الإنتهاء من القصيدة بشكل مُصوَّر ، إذ أنه ردّدها أكثر من مرة ، و كان في كل ترديدة ، يرافقه صوت ( صول ) لآلات الكمان المحتشدة فوق أكتاف العازفين وراءه ، حتى لكأنه يشير إليك بسبابته ذات اليمين وذات اليسار، في إشارة موحية منه بالنفي ، كما يفعل الواحد منا عندما لايكون راغبا ً في الكلام ، إذا أراد نفي أيِّ أمر كان ، بعد أنْ فرش ومهّد بآلته الموسيقية ( عوده ) تقسيما ً أعده من أروع ما استمعت إليه من عزف على هذه الآلة الجميلة ، التي كان لها في هذه القصيدة سحرا ً شرقيا ً باهرا ً ، يأخذ بتلابيب العقل والأذن والعين ، إلى حدّ الجنون ، خصوصاً عندما يلتحم صوت أوتارها مع الإيقاع و آلتي ( القانون ) و ( الكونترباص ) تحديداً عندما يترنم بالبيت الذي يقول فيه على لسان الشاعر : ـ وخيالي الذي سما بك يوماً .. يا له اليوم من خيال كسيح ـ أرجع بكم تواً ، إلى مطلع القصيدة لاستكشاف مظاهر التطوير ومكامن الجمال في هذه الرائعة ، فهو يبدأ مطلعه بلهجة عربية مُفخّمة ، خاصة حينما ينشد بهذه الكلمات من مبتدئها : لا و عينيك ِ يا حبيبة روحي .. لم أعد فيك هائماً فاستريحي سكنت ثورتي فصار سواء .. أن تليني أو تجنحي للجموح ِ فهو عند نطقه للفظة ( ثورتي ) التي سبقها فعل السكون ، تتصاعد الموسيقا المصاحبة في ارتفاع مذهل مع صوته الذي يأسر كلمة ( الجموح ) لبرهة من الزمن ، بيّن به مقدرته الصوتية ، كل ذلك ، لأنه يعلم ما لهذه اللفظة ( ثورتي ) من ثقل ٍ و رهبة في قرارة من لم يصبه وقرٌُ في مسامعه ، و كذلك من معنى يحمل في طياته ، عظمة الشيء ، الذي يريد أنْ يعبّر عنه ، لذلك تجاهل فعل السكون ، الذي هو في الأصل فعلٌ غير مُفعـَّـل ، فالسكون فالحقيقة يعني انعدام الفعل ، ربما لأنه ابتغى أنْ يوضح كيف أنّ ثورته الأولى قد خمدت بفعل ما لقاه من حبيبته من فتور ، لذا غلّب الثورة على السكون ، فهو بذلك ، يود أنْ يشعر مستمعه بمصابه ، و ذلك ما ينجح في التعبير عنه مرة أخرى ، عند ذكره لكلمة ( الريح ) في صيغة المضاف و المضاف إليه ( مهب الريح ) في البيت التالي له بالتحديد ، فهو بعد شدوه لهذه الكلمة ، قفّاها بـ ( صول ) موسيقي بآلات الكمان ، ترجّم هذه اللفظة في شكل صوت الريح - لا ( الرياح ) - التي عادة ما تحدثه الزوابع العاتية ، فثمة فرق كبير بين هاتين اللفظتين لمن يدرك ذلك ، فحتى في القرآن الكريم ، ما جاءت كلمة ( ريح ) إلا و قد لحقت بها كلمة ( سوء ) فهي مؤذِنة لغوياً بالسوء و خراب العمران ، بعكس لفظة ( الرياح ) التي عادة ما يجيء وراءها الرخاء و الخير ، و هذا ما يعكس للقارئ و المستمع صحة ما أوردته في بدء هذه المقالة ، من حيث معرفة الجيل الذي ينتسب إليه هذا الموسيقار الكبير ، بأحكام النطق و معرفة مفردات اللغة العربية ، نتيجة ًلدراستهم الأولى في المدارس القرآنية ، و لمطالعتهم المستمرة للشعر العربي في العصر الحديث . أما في تتمة هذه القصيدة ، نجده يصوّر لنا جميعاً ، مشهد خطابه لمحبوبته في وقار و حِدّة ، الذي يفرض عليه أنْ ينشده بصوته المفخّم ، و هوّ يذكرها بمدى إخلاصه و مهدداً إياها بأسلوب المحبّ المخلص . كل هذه المعاني ستستمعون إليها في هذه القصيدة الرائعة ، في وقت لا يتعدى الست دقائق والثانية الواحدة من الدقيقة السابعة ، فأنا أنصحكم بالإنصات إليها : قصيدة ـ(لا وعينيكِ)ـ شعر كامل الشناوي لحن و أداء الموسيقارـ( فريد الأطرش)ـ لا وعينيك ِ يا حبيــبة روحي .. لم أعُد فيك هائِماً فاستريحي سكنت ثورتي فصــار سواء .. أنْ تليني أو تجنحي للجمـوح واهتدت حيرتي فسيّان عندي .. أنْ تبوحي بالحبِّ أو لا تبوحي وخيــالي الذي سما بك يوماً .. يا له اليوم من خيال ٍ كسيح ٍ والفؤاد الذي سكنتِ الحنايا .. منه أودعتــه مهـب الريــــح ِ لا وعيـنيكِ ما سلوتك عمري .. فاستريحي وحاذري أنْ تُريحي
عدل سابقا من قبل وليد علبي في 27/10/2014, 20:35 عدل 2 مرات
أبو وحيد ضيف شرف
عدد المساهمات : 12345 تاريخ التسجيل : 25/12/2010
موضوع: رد: القصيدة عند الموسيقار 27/10/2014, 20:29
اهنئك من كل قلبي استاذنا القدير المتألق @@@ وليد علبي @@@ على هذا المقال الرائع للاستاذ القدير زياد العيساوي والذي يظهر مقدرة الموسيقار الكبير المبدع ****** فريد الأطرش ******* في صياغة الالحان طبقا لمعاني الكلمات مما يعطي صورة وضاءة ومؤثرة في نفس المستمع يجعل العمل الفني ناجحا وخالدا ومتميزا مع خالص الود والثناء والتقدير ودمت ذخرا لمنتدانا الجميل
أشرف الزيات فريديّ أصيل
عدد المساهمات : 9892 تاريخ التسجيل : 05/12/2012
موضوع: رد: القصيدة عند الموسيقار 28/10/2014, 10:56
مقال روعه جميل جدا ويعطى للموسيقار حقه في مقدمى الملحنين دمت بخير اخى وليد والف شكر لمجهودك وتواصلك
وليد علبي الاداره- كبار الفريدين
عدد المساهمات : 37914 تاريخ التسجيل : 01/01/2013
موضوع: رد: القصيدة عند الموسيقار 29/10/2014, 16:16
استاذي القدير ابو وحيد شكرا جزيلا على ماتفضلت به من اضافة ساحرة ببعدها الثقافي والتي تندرج ضمن عبارات التشجيع اضافة الى معلومات تساهم في حركة التوثيق لمسيرة الخالد فريد الاطرش دمت ذخرا لنا ولمنتدانا العظيم مع فائق احترامي وتقديري
وليد علبي الاداره- كبار الفريدين
عدد المساهمات : 37914 تاريخ التسجيل : 01/01/2013
موضوع: رد: القصيدة عند الموسيقار 29/10/2014, 16:25
اخي المبدع اشرف الزيات اطلالتك المميزة افاضت على الموضوع الكثير من الحيوية وكذلك على صفحتي الاشراق والانارة دمت متألقا في مواضيعك مع كامل تحياتي وامتناني
موضوع: رد: القصيدة عند الموسيقار 29/10/2014, 16:44
ألف شكر لك أخي الغالي الأستاذ وليد علبي على هذا المقال الرّائع.. وأنا شخصيّاً من المعجبين بقراءة زياد العيساوي لتراث "الفريد".. فلا عدمنا عطاءك الجميل.. دمت بألف خير.. وتقبّل صادق مودّتي وتقديري
وليد علبي الاداره- كبار الفريدين
عدد المساهمات : 37914 تاريخ التسجيل : 01/01/2013
موضوع: رد: القصيدة عند الموسيقار 29/10/2014, 20:14
اخي القديرنعيم المأمون شكرا جزيلا على ماتفضلت به من مشاركة تكمن اهميتها في عبارات التشجيع دمت متألقا في روائعك مع بالغ تقديري وفائق احترامي