كيف ، بمحض اختيارى الحر ، أوقعت نفسى فى هذا المأزق الحرج ؟
كيف ، وأنا بكامل قواى العقلية ، ارتضيت الدخول ، الى أرض ،مجهولة المعالم . لا خريطة معى . لا دليل . ؟؟لكننى ما ألبث ، أن أغير قناعتى . وبكل ارتياح ، أحزم حقائبى، وأقبل التحدى . أليس هذا جزءا أصيلا ، من لذة الكتابة ، ومتعة السفر مع الكلمات ؟؟أتأمل صفحة الزمان . مرت السنوات ، سريعة ، منذ أن تدفق « فريد « ، من قلب الجبل ، الى قلب الحياة ،الى قلبى .يخطئ منْ يعتقد ، أننى فى ذكراه ، أتذكره . حينما نتذكر شخصا ، يعنى هذا ، أنه أصبح فعلا ، فى طى النسيان . « فريد « ، رجل « عنيد « ، لا يعطينى ، فرصة لأن أتذكره . فهو طوال السنة ، حاضر
فى دمى ، مقيم فى وجدانى ، ملتف حول خلايا الذاكرة .
يخطئ أيضا ، منْ يتصور ، أننى سوف أحكى ، حكايات عن « فريد « . أو أكشف خبايا ، من طباعه ،وسيرته الذاتية . أو أسرد حقائق عن موسيقاه ، المرموقة . هذه ليست مهمتى . هناك الكثير ، المتنوع ، من المطبوعات ، والمؤلفات ، التى شرفت بهذا الدور .
كلها ، بالضغط على زر صغير ، تصبح متاحة للجميع .
كما أن « فريد « ، وهذا جزء من تفرده ، لا يمكن ، أن تسجنه ، صفحات الكتب ، وشاشات الانترنت .
مهمتى ، أنا ، مضنية . أحاول أن أفك الشفرات
التى تربطنى ب « فريد « ، منذ طفولتى . أحاول أن
أكتشف لماذا ، اذا فات يوم ، دون أن أستمع اليه ، يكون حقا « الخروج من الجنة « . ؟
كيف تضبط موسيقاه ، كيمياء مخى ، وتنقى دمى ، وتعدل مزاجى ، وُتريح أنفاسى ؟؟
ولماذا تتآمر ضدى ، عائلة « الأطرش « ، ف تأتى ، « أسمهان « ، أخت « فريد «، فتنهى ما بدأه الأخ ، وتكمل على بقيتى ، بالشجن اللذيذ ، يُبكينى ، فى صمت ،
أنبل البكاء . ؟
فى طفولتى ، كنت أعيش مع أمى ، فى بيت بالجيزة ، شارع مراد الدور الخامس ، شقة 18 . وفى الدور الثالث ، شقة 12 ، تعيش ثلاثة من خالاتى ، قبل زواجهن ، سهام وسلوى وسناء . تعودت أن أقضى ، أوقاتا كثيرة معهن . كانت سهام ، تحب « ثومة »، سلوى تحب « عبد الوهاب » . أما سناء ، فكانت تعشق « فريد « ، الى حد الجنون . ويبدو أننى ، كنت مهيأة ، بالفطرة ، ل « فريد « ، بالتحديد . ولأن التعليم ، فى الصغر ، كالنقش على الحجر ، أصبح « فريد « ، منحوتا فى ذاكرتى ، محفورا فى وجدانى .
مثل كل البشر ، كان ل « خالتى « سناء ، بعض العيوب ، والأخطاء . لكننى أغفرها لها جميعا . ولا أذكر لها ، الا أنها ، أول منْ ، أخذ ب يدى ، الى مدينة « فريد » .
أخبرتنى خالتى سناء ، أن أمى كانت تشبه ، سامية جمال ، وهى فى المدرسة الثانوية . ومن مطالعتى للصور
القديمة ، تأكد لى كلامها . وهذا جعلنى ، أحب أمى ، أكثر . وأحب سامية جمال ، أكثر . وكانت « سامية » ، المرأة الوحيدة ، التى أراها الفاتنة ، بين كل النساء .
فهى فى حياة « فريد « ، حب استثنائي ، وعشق لا يتكرر . كانت سامية ، ترقص موسيقى « فريد » ، لا ترقص عليها . والفارق كبير ، لا يصنعه الا حب نادر . لا تحسه ، الا امرأة ، هى الأخرى ،
بالضرورة « فريدة « .
فى احدى الليالى ، كنت أشاهد ، مع خالتى سناء ، فيلم « رسالة من امرأة مجهولة « . أخبرتنى أنه ، سافر الى بيروت ، ليقدم بعض الحفلات . راودتنى فكرة أن أرسل له «رسالة من طفلة مجهولة « . لم أخبر خالتى . ونزلت من البيت ، ومشيت الى بيته بالجيزة ، المطل على النيل . تحت عتبة الباب ، تركت رسالتى :
«أنا بحبك أوى أوى وكمان طانت سناء ... مُنى .. 8 سنوات» .
لا أدرى ، أهى مصادفة ، أن سوريا ، أعطتنى ،
أجمل رجلين فى حياتى . « نزار « 21 مارس 1923 - 30 أبريل 1998 فى الشِعر . و « فريد « 21 أبريل
1910- 26 ديسمبر 1974 ، فى الموسيقى والغِناء ؟؟
الأول ، ينتهى فى أبريل - شهر مولدى . والثانى يبدأ ، منه ؟؟ الاثنان ، يرحلان عن الدنيا ، بسبب قلب منهك .
والاثنان ، يموتان بعيدا عن أرض الوطن . « نزار « ، فى لندن . و«فريد» ، فى بيروت .
وهل هى مجرد مصادفة أيضا ، أن رقمى المفضل ، 13 ، هو فارق العمر، بين «فريد « ، و « نزار « ؟
ونحن الثلاثة ، ننتمى الى برج الحمل ، 21 مارس - 21 أبريل . « نزار » ، يبدأه . و« فريد » ،ينهيه . وأنا بينهما . وسامية جمال ، أبت ألا ترحل ، الا فى ديسمبر ، الشهر الذى رحل فيه « فريد « .
ربما يندهش البعض ، من حسابى للأرقام بهذا الشكل . أنا فعلا ، منذ أن بدأت الوعى ، بالأشياء ، وأنا أهتم ب تتبع الأرقام ، جيدا . أحسبها بدقة . وأحفظها فى الذاكرة .
وأنشغل بتأملها ، وكشف أسرارها ، والتوصل الى دلالاتها المستترة ، والعلاقات الخفية ، بينها . وأنا أشارك
الفيلسوف فيثاغورث ، 580 - 500 ق . م ، رأيه ، بأن « الأرقام» ، و« الموسيقى »، عنصران أصيلان فى تكوين ، وتشكيل الكون المتناغم .
كم تمنيت ، أن تلتقى كلمات « نزار » ،
بصوت « فريد » ، وموسيقاه . لكن كلا من « نزار » ،
و« فريد » ، متمردان ، لا يستجيبان للأمنيات . ودائما ،
يبحران بعيدا ، عما تشتهى السفن .
حينما سافرت الى لندن ، للحصول على الماجستير ،
لم أضع فى حقيبتى ، الا أغنيات ، وموسيقى « فريد « .
وأعتقد ، أن هذا هو سبب نجاحى ، بتفوق .
ارتباطى المبكر ، ب « فريد « ، جعل للِغناء ، والموسيقى ، تأثير الِسحر فى نفسى . كانت صفحتى
الثابتة ، فى مجلة روزاليوسف ، لمدة 8 سنوات ، من 2003 حتى 2011 ، بعنوان «غناء القلم « .
وحين أتأمل حياتى ، أجد أن كل رَجل ، انجذبت اليه ، كان على علاقة أصيلة ، بالِغناء ، والموسيقى ، بأشكال ، ودرجات مختلفة .
أشعر أن موسيقى « فريد « ، جزء من كيانى ، امتد خارجى . وحين أستمع اليه ، أستعيد اكتمالى ، وأعود الى جذورى .
لست أستطيع الكلام ، عن الموسيقى ، والغناء ، دون التطرق ، الى ذلك الرجل ، الاستثنائى ، غريب المزاج ، نادر التواضع ، فيلسوف الموسيقى ، اسمه ،
« القصبجى « 15 أبريل 1892 - 26 مارس 1966 .
مع « القصبجى « ، أتألم من ذروة الانتشاء . مع
« فريد « ، أنتشى الى حد الألم . مع « القصبجى « ، تتعفرت دقات قلبى . مع « فريد« ، تهدأ دقات قلبى .
مع « القصبجى » ، أسافر . مع « فريد » أعود .
مع « القصبجى » ، أنسى منْ أنا . مع « فريد » ،
أعرف منْ أنا .
أنا ، التى لا تنام ، الا على وسادة السكون ، وايقاعات
الصمت ، يأتينى النوم ، سلسا ، حنونا ، ناعما ، اذ يغنى
« فريد » تصبح على خير يا حبيبى انت من الدنيا نصيبى .
يتألق « فريد » ، فى جميع أعماله . لكنه يصل الى
الذروة ، فى الأغنيات التى تقطر ألما . وكأن رسالته ، هى مواساة القلوب الحزينة ، ومداواة آهات الألم . من هذه الأغنيات ، أذكر مثلا : « حكاية غرامى » ، « نجوم الليل « .. « وحياة عينيكى « .. « عذاب .. عذاب » .. «القلب قلبى والحب حبى »..
« سألنى الليل « .. « يا حبيبى طال غيابك » ..
« حبيب عمرى» .. « أنا كنت فاكرك ملاك » ..
« عدت يا يوم مولدى « .. « يا زهرة فى خيالى » ..
« لحن الخلود - بنادى عليك » .. « ودعت حبك » ..
« اياك من حبى « ... « لو تسمعنى لآخر مرة » ..
« لا وعينيك يا حبيبة روحى » .. « يفيد بايه الأنين »..
« عش أنت انى متُ بعدك » .
فى أغنية « الحياة حلوة بس نفهمها « ، يمنحنا
« فريد « ، كلمة السر ، التى تفتح لنا مغارة السعادة .
« أن نفهم الحياة « ، هو الطريق الوحيد ، للبهجة ، والحب ، واسعاد الآخرين ، والانتصار على الهموم .
قلما يعبر الاسم ، عن صاحبه . لكن اسم « فريد « ، يتناغم تماما ، مع شخصية «فريد « . كان فريدا فى موهبته ، وفريدا فى وحدته ، وفريدا فى أحزانه ،
وفريدا فى كرمه ، وفريدا فى رهافة مشاعره ،
وفريدا فى عزفه على العود ، وفريدا فى عزوفه عن الملذات الزائلة ، وفريدا فى اهمال صحته ، وفريدا فى علاقته بالنساء ، و فريدا فى عشقه للبحر ، وفريدا فى ملله السريع من الأشياء .
هل هذه صدفة أخرى ، مع « فريد « ، أنه الوحيد ،
الذى يغنى ، للسابحات الفاتنات ؟؟ فأنا سبًاحة ماهرة ،
وأمارس السباحة ، يوميا ، لمدة ساعتين ، صيفا ،
وخريفا ، وشتاء ، وربيعا . كلما منحت جسمى ، للماء ،
يأتينى صوت « فريد « ، فى لحن يتموج ، كالماء ، ليس له مثيل :
« يا فرحة المية بالحسن والخفة لأجل العيون ديا سلمت أنا الدفة « . لم أسمع من قبل ، تعبير يصف
الماء ، بأنه « فرحان » . و الشىء بالشىء ، يُذكر .
اسم « فريد » ، الثلاثى .. فريد فهد فرحان .
لا أعرف ، الى أى مدى ، نجحت فى مهمتى المضنية . فقط أعرف ، أن « فريد » ، مهما حاولت ، سيظل سرا ، يقدم لى ، العزاء ، والسلوى .
شاركنى « فريد » ، فى كل ما مضى ، من عمرى . وهو الوحيد ، الذى أئتمنه ، على الباقى من عمرى . هو بدون شك ، بدون تردد ، وبكل زهو ،«حكاية العمر كله».
يقولون أن « فريد » ، أضرب عن الزواج ، لأنه يقدس حريته ، ويؤمن أن الفنان ، يجب أن يعيش ، لفنه ، وجمهوره فقط . أبتسم . وأتركهم أحرارا فيما يعتقدون . فأنا على قناعة تامة ، لا تقبل الشك ، أو المناقشة ، أن « فريد » ، كان ينتظر ، تلك « الطفلة المجهولة » ، التى تركت له ، رسالة تحت عتبة الباب ، الى حين أن تكبر .
حين نستمع الى صوت ، وموسيقى ، « فريد « ،
فى ذكراه ، فاننا لا نكرمه هو . بل نكرم أنفسنا .
ولسنا نكافئه ، هو . بل نكافئ ، أنفسنا .
رابط دائم: