موضوع: الموسيقار رائد السينما الغنائية 22/6/2016, 18:26
د ياسر علوي كان التانجو ابناً شرعياً للسينما الغنائية في مصر، ازدهر مع ازدهارها واندثر استخدامه مع تراجع واندثار السينما الغنائية. لهذا، ليس مدهشا أن نجد أن فريد الأطرش، بما هو "رائد السينما الغنائية المصرية" من أهم من استخدموا إيقاع التانجو في أغانيهم. كيف؟
مرت السينما الغنائية في مصر بثلاث موجات رئيسية، الأولى في الأربعينات ومطلع الخمسينات، وسيطر عليها تماما فريد الأطرش (31 فيلما غنائيا) من جهة وليلى مراد من جهة أخرى، والثانية في الخمسينات ومطلع الستينات وكان أبرز نجومها الرباعي (محمد فوزي/عبد الحليم حافظ/شادية/صباح)، والثالثة كانت في السبعينات وقامت على اكتاف سعاد حسني أساسا (برباعيتها مع صلاح جاهين: خللي بالك من زوزو/المتوحشة/أميرة حبي أنا/شفيقة ومتولي) وثلاثية وردة الجزائرية (حكايتي مع الزمان/أه يا ليل يا زمن/صوت الحب) والتجربة الهامة لعفاف راضي (مولد يا دنيا).
وكان فريد الأطرش –أكثر من قدم أفلاما غنائية في تاريخ السينما المصرية– هو أيضا أكثر من لحن باستخدام إيقاع التانجو. والطريف أن تجربة فريد الأطرش مع التانجو تحكي ببلاغة شديدة قصة التانجو في الموسيقى المصرية. كيف؟
بدأت التجربة الأولى لفريد الأطرش مع التانجو، من خلال لحن صيغ على طريقة اسكتشات الكابريهات، في فيلم "ماقدرش" الذي قام ببطولته مع تحية كاريوكا سنة 1946، ثم انتقل لغناء التانجو بالفصحى (مثال: قصيدة "يا زهرة في خيالي" من فيلم حبيب العمر سنة 1947)، ووصولا إلى غناء وتلحين أغاني تانجو بالعامية مثل أغنية "يا حبيبي طال غيابك ليه يا قاسي" من فيلم عفريتة هانم سنة 1949، واللحن الرائع الذي سنستمع له اليوم من غناء العظيمة المنسية نور الهدى، وهو لحن "يا ساعة بالوقت إجري" من فيلم "ما تقولش لحد" (إنتاج 1952).
الكلمات الرشيقة لمحمد علي أحمد، أحد نجوم الموجة الثانية للسينما الغنائية المصرية، ومن أشهر أعماله أغاني فيلم "لحن الوفاء" الذي قام ببطولته عبد الحليم حافظ. وهي كلمات بسيطة تعكس حالة شوق المغنية للقاء محبوبها وتعجلها موعد لقائهما. ليس في الكلمات ما يحتاج الشرح من حيث المضمون. أما من حيث الشكل، فهي مصاغة في قالب الطقطوقة، وتتكون من مذهب عبارة عن بيتين موحدي القافية (إجري/ بدري)، ثم 3 أغصان/كوبليهات مصاغة في صورة رباعيات تتطابق فيها قوافي البيت الأول مع الثالث، والثاني مع الرابع. هكذا، نجد في الكوبليه الأول مثلا (قربه/جنبه والغياب/العذاب) وتتكرر اللعبة في الكوبليهين التاليين.
هذا الشكل البسيط للطقطوقة، ومضمونه الخفيف، عكسه فريد الأطرش باقتدار في لحنه، ليتحفنا بدون استعراض عضلات لا مبرر له ولا يتناسب مع الكلمات، بأحد ألحانه الراقصة الخفيفة الرائعة من مقام الكرد.
ومن باب الاستطراد السريع، أصارح القارئ أنني أعتقد أن الألحان الراقصة الخفيفة تعد أهم إسهامات فريد الأطرش كملحن. وقد ظُلِم فريد الأطرش من عدد لا يستهان به من السميعة الذين ركزوا –مدحا أو ذما – على بكائياته الطويلة، وكأن الأغاني القصيرة والخفيفة لا تليق بالمستمعين المتقعرين، فغاب عنهم بعض من أجمل ألحان فريد الأطرش وأخفها دما.
على كل، فقد التزم فريد –ظاهريا– بالشكل التقليدي للطقطوقة، الذي تبناه سيد درويش في جميع طقاطيقه، ويقوم على أن تغنى كل أغصان/كوبليهات الطقطوقة بنفس اللحن. لكن فريد الأطرش لم يلتزم تماما بالشكل التقليدي للطقطوقة، وبدلا من أن يتكرر غناء المذهب بين الكوبليهات –وهي الطريقة المألوفة في تلحين وغناء الطقطوقة- استخدم حيلتين: الأولى هي أن ينهي كل كوبليه بقفلة موحدة هي عبارة عن تكرار البيت الأول من المذهب، في صورة قفلة مذهلة تكر فيها نور الهدى باقتدار شديد كل السلم الموسيقي لمقام الكرد من جوابه (نغماته العليا) لقراره (نغماته الغليظة) في نفس واحد (جملة "يا سااااااااعة بالوقت إجري") . أما الحيلة الثانية، فهي تكرار اللازمة الموسيقية الرائعة، بدلا من تكرار غناء المذهب بين الكوبليهات.
وإلى جانب هذا الشكل المبدع في بناء الطقطوقة، مارس فريد الأطرش لعبة طريفة في اللحن، فصاغ المقدمة الموسيقية بإيقاع سريع وراقص هو إيقاع "الفوكس تروت"، يليها غناء المذهب من إيقاع شرقي صرف هو "إيقاع المقسوم"، ثم جاءت كل الكوبليهات بلحن موحد في إيقاع التانجو. أي أن فريد الأطرش يقدم لنا هنا "تنوعا إيقاعيا" مزج فيه بسلاسة ورشاقة بين إيقاعين "غربيين" وإيقاع "بلدي" بدون أي عقد، في مؤشر واضح على قدرته على استيعاب المؤثرات والإيقاعات الغربية ودمجها في خياله اللحني الشرقي الصميم.
مقاميا، يخلو اللحن من الفذلكة، ليتناسب مع الكلمات الرشيقة والجو الراقص للأغنية. هكذا يبدأ اللحن في مقام الكرد (المقدمة الموسيقية والمذهب) مع نقلة واحدة فقط في مطلع كل كوبليه لمقام الحجاز، ثم العودة في القفلة الرائعة لمقام الكرد من خلال استعراض للقدرة الصوتية المبهرة لنور الهدى في أن تجري لنا على السلم الموسيقي لمقام الكرد كاملا في ختام كل كوبليه لتسلمنا إلى اللازمة الموسيقية المبهجة التي تتكرر بين الكوبليهات.
فريد الأطرش من أجمل الملحنين وأقلهم حظا مع الاعلام. وستكون لنا زيارات قادمة عديدة لإبداعاته المتنوعة.
وليد علبي الاداره- كبار الفريدين
عدد المساهمات : 37914 تاريخ التسجيل : 01/01/2013
موضوع: رد: الموسيقار رائد السينما الغنائية 9/9/2016, 12:08