موضوع: مقالة الموسيقار وفيلم حبيب العمر 29/5/2017, 22:10
احمد الاطرش بروكسل
كان فريد قد اشترى الخيل وصارت له حظيرة ، وللحظيرة ميزانية ، وهو يكسب أحياناً ويخسر أكثر الأحيان ، وتطير جنيهاته بين سنابك الخيل التي تعرف الوفاء
لأصحابها في ميدان القتال ، ولكنها لا تعرفه في ميدان السباق ! واستغرق في مقامرة الورق .. حول الموائد الخضراء ! وأصبحت المقامرة جنوناً بعد موت أسمهان
، فإنه يعرف أن الذي يمسك أوراق اللعب لا يرى غير أرقامها ولا يشغل باله غير خططها ، ويعرف أن الذي يذهب إلى سباق الخيل يتصور حدود الدنيا عند هذا
السور الذي تجري عنده الخيل ، ومنتهى المنى خط النهاية في السباق ..وكل هذا ينأى به عن الأحزان وذكريات أسمهان وخسر كثيراً،خسر بغير حساب .. وفجأة طرق صاحب البيت بابه .. وسأل فريد عم عبده :
_ ماذا يريد صاحب البيت يا عم عبده ؟
فقال عم عبده ووجهه الداكن يفشي حزنه لما صار إليه الحال :
_ يريد إيجار البيت .. إنه لم يأخذه منذ ثلاثة أشهر
وأحس فريد حرجاً أمام عم عبده إن اللهجة التي تحدث بها وشت عن سخطه وإن كان سخطاً مهذباً فهل من اللياقة أن ينتهي إلى هذا الهوان ؟
ارتدى فريد ثيابه على عجل وقام إلى الرجل يستمهله يوماً واحداً ! وغادر البيت إلى صديقه الثري الكبير يطلب إليه أن يقرضه مائة جنيه ! قالها فريد وهو يحس
حرجاً ، ثم تصبب عرقه حين قال له الثري الكبير:
_ فريد أنا لا أستطيع أن أوقع شيكاً فيصرفه البنك على الفور .. لا بد أن يوقع أبي بجانب توقيعي ! أنا الفرع وهو الأصل ، والفرع لا يغني عن الأصل ..
وصافحه فريد على عجل وخرج من عنده وفي صدره سكين ! لكم غنى فريد لهذا الصديق في أفراحه وأفراح أصدقائه دون أجر ! لكم جامله وكرس له لياليه .. ها
هي الشدة جاءت وفيها عرف عدوه من حبيبه.. لن يكون ذاك الثري صديقه بعد اليوم ، فالصداقة ليست جلسة إلى مائدة خضراء أو رحلة إلى حلبة سباق ، إنها عنده
المروءة والنخوة والمؤازرة .. وصديقه الثري يفتقد هذا كله ! لن يلقاه بعد اليوم .. لن يراه ، المائدة الخضراء تجمعهما فلتذهب إلى الجحيم المائدة الخضراء ، وحلبة
السباق .. فلتحرم عليه حلبة السباق ! وأقسم فريد من صميم قلبه على ألا يقامر .
وبكى فريد الأطرش وهو يردد قسم التوبة !
وفي صباح اليوم التالي كان في صحف الصباح نبأ صغير ولكنه يهم فريد الأطرش ، الخبر أن صديقه الثري الذي رفض أن يقرض مائة جنيه خسر على المائدة
الخضراء اثني عشر ألف جنيه !
***
وبدأ فريد الأطرش في تنفيذ قرار مقاطعة المائدة الخضراء وسباق الخيل على الفور ، فقد اجتمع بصديقه المخرج هنري بركات وأعلمه برغبته في النـزول إلى ميدان
الإنتاج ، فسأله بركات :
_ وكيف تدبر المال ؟
فقال :
_ أخذت اليوم بعض المشترين إلى حظيرة خيلي فثمنوها بأربعة آلاف جنيه .. غداً أقبض الثمن وأوقع عقد البيع .. وعرضت سيارتي للبيع وبعتها فعلاً بثمانمائة
جنيه ، وأستطيع أن أكمل هذا المجموع إلى خمسة آلاف جنيه إذا سجلت أسطوانة واحدة .
فعاد بركات يسأل وهو يمسك ورقة وقلماً وكتب :
_ ولكن إنتاج الفيلم قد يتكلف ثلاثين ألف جنيه . فمن أين لك بالباقي ؟
فقال فريد بسرعة :
_ اتفقت مع الموزع عبد الرزاق الجاعوني على أن يقرضني على الفيلم عشرة آلاف جنيه ...
ثم أردف قائلاً :
_ وسأعمل كل جهدي لكي أكمل ما يلزمني ، ونبدأ العمل على الفور !
وبعد يومين جلسا في قهوة بور فؤاد ، وعلى وجه فريد يأس مشرب بالحزن ، وقد ابتدر بركات قائلاً :
_ إنني عدلت عن فكرة الإنتاج ، لن أقترض من أحد .. لن أذل نفسي لمخلوق .
فقال بركات :
_ تستطيع أن تخصم من تكاليف الفيلم أجري عنه .. إنني لن أتقاضاه إلا من إيراده .. وقد أجريت اتصالاتي مع الاستديوهات حتى عقدت لك اتفاقاً مريحاً ، سندفع جزءاً من إيجار الاستديو مقدماً ، والجزء الأكبر ندفعه مؤخراً !
فقال فريد الأطرش واليأس يجلو على وجهه :
_ فهل تعتقد أن الخمسة عشرة ألف جنيه أصبحت تكفي ؟
فقال بركات بتواضع من لا يريد أن يمن بفضله :
_ إذا نقص شيء سأدفعه من جيبي والحساب يجمعنا !
وبدأ بركات وفريد يبحثان عن قصة الفيلم .. أعجبتهما قصة (( دعاء الكروان )) للأديب طه حسين، فقابلاه ليتفقا ، وحرر المرحوم نجيب الهلالي صيغة العقد
، ووقعاه ! وعندما عكف بركات على دراستها وجد البطل شريراً ولا يمكن أن يكون مطرباً يشدوا بأغان تلمس القلب ، فاقترح فريد أن يكون الفيلم استعراضياً لأن
رأسماله صوته وألحانه ، ولا بد أن يقدمهما للجمهور في إطار بهيج .. فاتفقا على قصة (( حبيب العمر )) وضعها لهما بديع خيري .
وحين بدأ التفكير فيمن تكون البطلة كانت سامية جمال قد غادرت مجلس الاثنين إلى حجرة جانبية ، فخفض بركات صوته وقال لفريد :
_ لماذا لا نأخذ سامية جمال ؟
فقال فريد دون تفكير :
_ أوافق !
ولكنهما أرجآ إعلان النبأ لها .. فقد قال فريد أنه يريد أن يجعل منه مفاجأة ! وفي اليوم التالي كان عيد ميلادها ، وقد أقام فريد حفلة ليحتفي بها ، وحين أطفأت
شموع الأعوام التي مضت من عمرها نظرت إلى فريد وفي عينيها حب ، فرأت مثله في عيني فريد .. وسادت لحظة صمت كأنها مناجاة وجاشت القلوب بالعواطف
وتمتمت الشفاه بكلمات غامضة كأنها أنفاس من القلوب العاشقة ، وقال فريد لسامية ، لكي يخرجها من تآملاتها :
_ لقد أحضرت لك هدية متواضعة !
ثم مد يده إلى جيبه وهي تتوقع سواراً أو عقداً أو غير ذلك من هدايا تلك المناسبة ، ولكنه أخرج ورقة ودفع بها إليها وهو يقول :
_ هذا عقد بطولة فيلمي الأول (( حبيب العمر )) !
وأمسكت سامية العقد وهي لا تتكلم .. لسانها انعقد .. وتركزت عيناها على فريد فلم تعد ترى غيرها ، رغم زحام الناس من حولها .. وفريد ينظر إليها ينتظر كلمة