الموسيقار فريد الاطرش يقسم بالله العظيم الا يدخل فلسطين
كتب: زهران معالي: تعبق أزقة البلدة القديمة في مدينة نابلس بروائح الحلوى والخبز والأعشاب والبهارات المختلفة المنبعثة من محلات العطارة، إلا أن الوضع بمنطقة باب الساحة مختلف، حيث تسيطر رائحة شواء اللحم منذ أكثر من سبعة عقود، لتفتح شهية المارين وتجذبهم من بعيد، وسرعان ما يتفاجأون بأن مُروّج تلك الروائح رجل يناهز الثمانين من عمره.
الحاج فؤاد حلاوة "أبو عماد"، صاحب مطعم النصر الذي شيد منذ عام 1936، اعتاد منذ أكثر من سبعين عاما على الاستيقاظ قبل بزوغ الشمس، ليرتدي الزي الخمري الخاص بالعاملين بالمطاعم، ويحتسي كوبا من الشاي وآخر من القهوة، ثم ينتقل سيرا على الأقدام من منزله في حارة الحبلة بالبلدة القديمة باتجاه المكان الذي يعتاش منه.
خلف طاولة كبيرة كان أبو عماد يقطع اللحمة ويضعها في أسياخ تعود للعام 1936 صنعها "الغجر" الذين كانوا يسكنوا مكان مخيم بلاطة قبل النكبة وما زال يحتفظ بها حتى اليوم، وعينه على خمسة أسياخ أخرى تسويها نار هادئة، تحدث لـ"وفا": "أبقى في المطعم حتى أذان المغرب سواء أكان هناك شغل أم لا".
وتعتبر منطقة باب الساحة مركز تواجد مؤسسات الحكومة العثمانية وقائم مقام نابلس في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وما زالت حتى اليوم واحدة من أكثر مناطق السوق التاريخي شهرة؛ لتواجد ساعة السلطان عبد الحميد الثاني الشهيرة بساعة "المنارة".
ويقع مطعم أبو عماد على بعد أمتار قليلة من قاعدة الساعة التي ترتفع لعدة أمتار، يمكن مشاهدتها من عدة مناطق في نابلس.
المطعم كان يعج بالزبائن إبان الانتداب البريطاني، فهو واقع بمنطقة باب الساحة حيث الدوائر الحكومية والحاكم العسكري الانجليزي واضع القرار 242، وكذلك السجن ومركز التوقيف، إلا أن أبو عماد يشتكي تراجع الحركة الشرائية في عشر السنوات الأخيرة.
سحب اللحمة من الأسياخ بكفيه، وتحدث لـ"وفا" عن أن زبائنه اليوم معروفون ويقتصرون على أهل البلدة القديمة، وأن بعض الزبائن يفضلون إحضار اللحم والبندورة والبصل معهم ويتولى أبو عماد عملية الشواء وتحضير الوجبة.
في سن الثانية عشرة اضطر أبو عماد أن يترك المدرسة ويلتحق بالعمل مع والده بالمطعم، وذلك عام النكبة 1948، حيث اضطر لترك مدرسة الغزالية التي كان يدرس فيها؛ إثر تحول المدارس والمساجد لمراكز إيواء للاجئين لنابلس من اللد والرملة.
يقول أبو عماد إن ترك المدرسة "كان كسرة خاطر لي ولعائلتي التي كانت تنتظر تخرجي بنفس العام، قديما كان الأهل يقيمون زفة لمن يتخرج بصف سادس، وكان يسمى قارئ كاتب، نتيجة التجهيل الذي مارسه الأتراك في فلسطين".
وما زال يتذكر حلاوة مدرسيه في المدارس الخاصة قبل التحاقه بمدرسة الغزالية، فقد درس لدى أربعة معلمين وهم "آمنة عسقلان، ومنور عبدو وشقيقتها، والشيخ بشير البكري، في حارة القيصرية، والشيخ حامد البسطامي".
"أبو عماد" أدخل بعض الحداثة على المطعم، حيث أعاد ترميمه، وشيد ديكورات للخشب في السقف.. وغزته الكراسي البلاستيكية والطاولات الحديثة وحلت مكان كراسي القش، إلا أنه مازال يحتفظ بشيء وحيد أحضره والده من حلب لتقطيع اللحمة عام 1936 وهو الساطور.
في عمر الثلاثين استلم "أبو عماد" إدارة المحل من والده مقابل أن يعلم إخوانه وأخواته العشرة في الجامعات وإعالة عائلته، وافتتح والده محلا لبيع الأخشاب، إلا أنه رغم بلوغه سن الثمانين يرفض التقاعد والجلوس في المنزل.
ويستشهد أبو عماد بمقولة "رجل ارتاح فلم يرتاح ولم يرح"، بمعنى تقاعد فيبدأ بالشجار مع نفسه، فالبيجامة زهقت منه والتلفاز كرهه، ولم يرح بأن يتدخل بأمور البيت وهو مملكة الزوجة، مضيفا "لماذا أبقى عاطل عن العمل، عندما كان يمنع الاحتلال التجوال كنت أشعر بالضيق، أحب العمل يوميا حتى لو بخسارة، لن أبقى جليسا في بيتي وأتلقى راتبي من أولادي أخر الشهر".
وخلافا للعادات السائدة في الخمسينات، كان ارتباط أبو عماد بزوجته مختلفا فلم يتزوج تقليديا، ففي 15-12-1957 وهو تاريخ يتذكره جيدا، كان اليوم التي احتلت فيه أم عماد قلبه، قائلا: أنا من تزوج.. لم تختار لي أمي شريكة حياتي، الحمد لله كان زواجي موفقا وكونا أسرة من ثلاثة أولاد وثلاث بنات".
وعرف عن "أبو عماد" بأنه رجل التاريخ والسياسة والفن، فهو من عاصر الانجليز والعراقيين والحكم الأردني، ومتابع لتاريخ الثورات العربية والانقلابات المختلفة، وحافظ لتاريخ مدينة نابلس العريقة ومعالمها المختلفة.. فهو ابن البلدة القديمة. وانعكس حبه للسياسة على فرحه وحزنه، فأكثر المواقف حزنا بالنسبة لأبو عماد انفصال الوحدة بين سوريا ومصر في 28 أيلول 1961 والتي استمرت لـ44 شهرا، والنكسة عام 1967، ووفاة الزعيم المصري جمال عبد الناصر.
وحول الفن، يقول أبو عماد أنه يحب متابعة الأفلام القديمة، فالفن مرآة المجتمع ويعكس أحواله، بحسب قوله، فهو يعشق الفنان الكوميدي نجيب الريحاني، ويطرب على سماع محمد عبد الوهاب وأم كلثوم، وهو يدخن "التمباك".
ويتذكر "أبو عماد" طرفة حصلت مع الفنان فريد الأطرش عندما قدم لمسرح الزهراء بمدينة نابلس بداية الخمسينات، ضاحكا: بدأ الأطرش بغناء "عشك يا بلبل ده جنى هيش هيش يا بلبل"، قاصدا انتقاد الحكام إلا أن اللغة لم يفهما مرتدو القنابيز الأميون، وبادروا برمي حبات البرتقال باتجاه المسرح غضبا".
ويتابع: "وسقطت إحدى حبات البرتقال على صينية القهوة مما أدى لسكبها على فستان الراقصة تحية كاريوكا، وتم إيقاف الحفلة وأخذ فستان الراقصة لتنظيفه وكويه عند المكوجي، واستقرا في فندق فلسطين الذي ما زال محله حتى اليوم أمام درج مكتبة البلدية، ووقتها حلف فريد الأطرش يمين ما يدخل فلسطين ثاني مرة". على حد قوله.
ويعكس "أبو عماد" حال الكثيرين من كبار السن بمدينة نابلس الذين دفعهم التصميم والعزيمة على تفضيل الاستمرار بالعمل على الجلوس بالمنزل.
نقلا عن وفا