يستحق الموسيقار الراحل فريد الاطرش، اكثر من فكرة الاستعادة السنوية لانجازه الموسيقي الرائد عربيا، فهو من طراز البناة الحقيقيين لابرز ما في الموسيقى العربية
خلال القرن العشرين، حين جاءت لتخرج بالوجدان العربي من اسر القوالب النغمية التركية الى افاق تعبيرية حديثة، كان الاطرش من ابرز صناعها.
في السادس والعشرين من كانون الاول العام 1974 رحل فريد الاطرش، فيما كانت صالات السينما في بيروت تواصل عرض اخر افلامه "نغم في حياتي" كان رحيله
كان مرتبطا بواحدة من انجازاته اللافتة في الفن العربي: السينما الغنائية اوالموسيقية، وهو منذ اول افلامه "انتصار الشباب" "1941" امام اسمهان حتى اخرها، حقق
للسينما العربية حقلا تعبيريا ووجدانيا، كانت ستفتقده لولا القدرة البارعة لصاحب "ياحبيب العمر" الفيلم الذي اخرجه بركات وكان الانتاج الاول للاطرش وفيه غنى رائعته
المعتمدة لحن "التانغو" اللاتيني في اغنية "يازهرة في خيالي" وذلك عام 1946.
وتحلو الاشارة في الذكرى السابعة والعشرين لرحيل صاحب "لحن الخلود" الى انه صاغ الحانه لمختلف القوالب الغنائية العربية: قالب القصيدة، الابتهال الديني، الموال،
المونولوغ، الديالوغ، الاغنية الشعبية، الاغنية الراقصة، التاليف الموسيقي للافلام، المقطوعة الموسيقية فضلا عن راعته في "التقاسيم" كعازف على العود له بصمته
فريد الاطرش: من صناع الموسيقى العربية في القرن العشرين
واذا امكن الحديث عن خطوات جريئة لموسيقيين عرب، وعن قدرتهم في نقل الاغنية العربية من نغميتها العابرة واطار التسلية المستغرقة فيه الى طابع التركيب النغمي
المولد للتعبير العميق عن المشاعر والرؤى الانسانية، اذا امكن كل ذلك، فانه سيقود للحديث قطعا عن انجاز فريد الاطرش، وبالذات في اعطاء الحانه جوهرا "هارمونيا"
لطالما كان سمة في التركيب الموسيقي الاوروبي، وهو في علاقته مع الموسيقى "الكلاسيكية" الاوروبية هنا جعل "التحديث" او الاتصال مع ثقافة الاخر، ذا بعد تاصيلي
وليس لمجرد التاثر والانبهار، فاعماله التي بدت متاثرة في البناء الهارموني "الغربي" كما في "حكاية غرامي" "عدت يا يوم مولدي" "لحن الخلود" وغيرها، لا يمكن
الا ان تحيل الى روحية عربية، لكنها روحية بدت قريبة الى نبض عصرها (النصف الاول من القرن الفائت، حين كانت المجتمعات العربية تنزع الى تجديد ولقاء نهضوي حقيقي مع الاخر، قبل ان ترتد وتتراجع بحمن سيطرة العسكرتاريا المتخلفة على ابرز المراكز العربية تحت اقنعة حكومات التحرر الوطني).
وفكرة الاتصال مع ثقافة الاخر وموسيقاه، كانت ليست مجرد فكرة "مودرن" ومنسجمة مع "الموضة" عند فريد الاطرش، بل هي سعي الى اعطاء التحديث النغمي
العربي، طابعا تاصيليا، فكان لحنه لشقيقته اسمهان (اسمها الحقيقي امال) في فيلم "غرام وانتقام" عام 1944 لحنا قارب "الفالس" القالب الموسيقي الغربي المعروف،
في اغنية "ليالي الانس" غير ان المستمع للاغنية لن يجد الا دفقا من المشاعر العربية الصياغة والمعنى والروحية كما ان هذه العلاقة او الاتصال مع اللحن الغربي لم
يكن اتصالا اعمى او مغلقا، فهو يعرف تماما الى اين هو ذاهب؟ ومع اي قضية يتصل؟ بل هو يعلم جيدا ان "الفالس" احساس انيس، وهو من نتاج ليالي العاصمة
النمسوية فيينا الموسيقية، ومن هنا جاء مفتتح الاغنية "ليالي الانس في فيينا".
وعن فرادة عمل الموسيقار الراحل المثير الذي يجب ان يسجله الدارسون للموسيقى العربية ولتاريخ تطورها الحديث، ان الملحنين الكبار في مدرستها المعمارية الشاهقة،
تاثر بعضهم ببعض غير ان الفرداة انعقدت للموسيقار فريد الاطرش الذي تخلص كثيرا من التاثر بغيره وتاثر به الجميع".
ودليل على الفرادة، هو لو اخذنا اغنية "اظنتيني بالهجر" فسنجدها صياغة لحنية بارعة ضمن قالب "غناء القصيدة" ولكنها في الوقت ذاته، تخرج عن حدود "الثقل"
والرصانة المتجهمة في القالب ذاته، لنجدها اغنية رشيقة اللحن، و "خفيقة" في تراتبها الايقاعي لتمضي في بناء فريد، فيه الخفة والرصانة معا، فيه احكام القالب، وطراوة
التجديد. هكذا كان فن الموسيقار الراحل فريد الاطرش سهلا ممتنعا، فيه التجديد والتحديث دون التنكر للاصول، فيه الاتصال العميق مع الغرب دون الانفصال عن
الينابيع، وهي غنية وعميقة عند الاطرش، تمتد من ينابيع الموسيقى التركية فالشامية والمصرية، وصولا الى ينبوع النغم التجديدي الخاص به.