[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]فريد الأطرش وإسهامه في فنّ القصيدة الغنائي**
******
****************************
******
هناك ثـُلة من المغنين ، تظن بأنّ أية أغنية طـُرِزت كلماتها على نسيج قـُـماشة اللغة العربية الفصحى ، تصيرُ قصيدة ًغنائية ً، هكذا بكل سهولة ، و من دون أنْ يتعايش المُغني مع مفرداتها ، و يتفهّم معانيها و مراميها ، فمن ضمن من تحوّل إلى محاولة أداء هذا النمط الغنائي الراقي ، بعضٌ من مغنيي اليوم ، نتيجة لاتساع الساحة أمامه – بعد جفاء المطربين لهذا الأداء ، لعلمهم بصعوبته ، و بالمهارة التي يتطلبها بعد زوال جماليات الصوت لديهم ، لا سيما و أنّ أغلبهم صار في أرذل العمر – و لحدسه بأنّ ما قدّمه هو و غيره من ألوان غنائية ، سوف لن يجعل له وزناً في تاريخ الغناء العربي المعاصر ، ما لم يدلُ بدلوه في هذا الشأن ، فانصب اهتمامه على دواوين الشعراء ، الذين تغنى بروائعهم المطربون الأوائل مثل ” نزار قباني ” و غيره من شعراء ، فأخذ بذلك من فنّ ( القصيدة الغنائية ) اسمها من غير صفتها ، من دون أن يدرك ، أنها ستصبح قصيدة فقط ، طالما أنه لم يعد لها اللحن اللازم ، متكئاً على شهرة الشاعر ، و عندما قام بتنغيم هذه القصائد ، قدّم للمستمع أعمال عبارة عن أغاني خفيفة و راقصة ، هي أقرب في موسيقاها إلى ( الطقطوقة ) ذات الجملة الموسيقية الواحدة ، المتكررة بعد كل ( كوبليه ) فلا تتصف البتّة بمفهوم القصيدة الغنائية المُتعارف عليها في العقود الماضية ، فقد كان الجيل الرائد ، ممّن أسهموا في تطوير الأغنية العربية عبر عقود طوال ، و بعد أنْ أثبت جدارته في غير لون من ألوان الغناء العربي ، قد أسهم أيما إسهام ، في وضع ركائز القصيدة المغناة ، بعد اندثار الإنشاد بالعربية الفصحى ، و تلحين اللهجات المتعددة بتعدد الجهات و الأمصار ، التي آل إليها الكيان العربي ، بعد سقوط دار الخلافة الإسلامية ، منذ ما يقارب الثمانية قرون ، اللهم إلا ، إعادة تقديم بعض الموشحات التراثية ضمن الفرق العربية المعروفة في كل قطر عربي ، حيث صار لهذا اللون ( القصيدة المغناة ) متخصصون ينشدونه في شكل جماعي ، يتعفف المطربون الكبار من تقديمه ، أو دعوني أقول يتهربون من ذلك ، ذلك أنه بحسب رؤاهم ، سوف لن يضفي لمكانتهم شيئاً ، إذ أنهم بذلك ، سيكونون كما أية موهبة غنائية ، تتربى على أصول الغناء العربي الصحيح ، و هي تشقُّ طريقها إلى عالم الغناء ، و مع ذلك ، تيقنوا بأنهم مطالبون بتقديم شيءٍ من هذا اللون الغنائي ، الذي فقدته الأذن العربية في العصر الحديث ، و ما ساعدهم على القيام بذلك ، أنّ أغلبهم قد تمكّن من ناصية اللغة عن طريق المدارس القرآنية ( الكتاتيب ) و استقى منها بحور الشعر و حفظ كماً كبيراً من قصائد الشعر المعروفة في العصرين الجاهلي و الإسلامي .
كان ذلك فيما يخصُّ اللغة ، و إجادة أحكامها لجهة الإعراب و النطق ، و فنون التجويد من إدغام و غـُنـّة و قلقلة و ما إليها من أحكام أخريات ؛ صحيح أنّ بعضاً ممّن اتجهوا إلى تقديم القصيدة المغناة ، هم على درجة عالية من الفصاحة اللغوية ، و لديهم إلمام كبير بأصول اللغة العربية ، لكن المشكلة و ما يعوزهم لا يكمنان هنا ، حيث إنّ تلحين القصائد يستلزم برأيي ، أنْ يكون الملحن ذا إحساس كبير بالمعنى و على معرفة كبيرة بمقامات الموسيقا العربية ، حتى يستطيع أنْ يوصل فكرة العمل إلى المتلقي بأذنيه و عينيه و عقله على حدًٍّ سواء ، فلا يركز على جارحة واحدة من جوارحه ، بل يتعين عليه أنْ يعمل بتزامن على إشباع هذه الحواس جميعها من الوجبة الطربية التي يقدّمها له ، و هذا لا يتأتى له ، إلا بالجمل الموسيقية المتسقة مع المعنى اللغوي لكل بيت من أبيات القصيدة ، فكم من قصيدة لم يقرأها المستمع و تعرف إليها من خلال اللحن المغنى فأحبها و راقت له ، لأنّ اللحن هو من يقدّم القصيدة على نحو صحيح ، و بأبعادها كلها ، خصوصاً تلك القصائد ذات الزمن الغنائي القصير ، الذي في الغالب يقارب العشر دقائق ، ففي مثل هذه القصائد يجنح الملحن إلى تنضيدها بحشد كبير من الجمل الموسيقية المتنوعة ، التي يساعده في إظهارها للأسماع معرفته بالمقامات الموسيقية المتباينة ، و ما يلحُّه عليه المعنى العام للمفردات ، سواء أكان طابعه الحزن أو الفرح .
و ما دُمت بصدد الاهتمام بما جاد به الفنان الكبير ” فريد الأطرش ” من فنون غنائية ، و ما أثر به مكتبتنا و موروثنا العربي الغنائي من روائع و بدائع ، ارتأيت في هذا المقال ، أنْ أبرز و ألفت عناية القارئ و المستمع معاً ، إلى دوره الكبير في تطوير القصيدة العربية المغناة ، إذ أنه قدّم ما في وسعه و فنه ، لهذا النمط الغنائي الرصين ، فقد لحّن في بدايته عام 1937 ميلادياً ، قصيدة تحت عنوان : ( ختم الصبر ) كانت دليلاً على تفتق عقلية جديدة في تلحين هذا الضرب الغنائي ، فكانت في حين ظهورها ، طفرة في هذا المجال الغنائي الصعب ، ما جعل المستمع ، الذي يتمتع بذائقة موسيقية فائقة ، يراهن عليه في تطوير فنّ القصيدة إلى جانب الموسيقار ” رياض السنباطي ” و موسيقار الأجيال ” محمد عبد الوهاب ” و لكن بنكهة أخرى ، فقد كان لحن هذه القصيدة مغايراً ، لما قدّمه الأخيران من ألحان تنضوي تحت لواء القصيدة الغنائية الحديثة آنذاك ، فشكّل الزاوية الثالثة و الضلع الثالث من ثالوث أو مثلث التطوير بجدارة ، حتى أنّ الموسيقار ” رياض السنباطي ” أشاد بتلك القصيدة و نعتها بما ذكرته لكم ، من دون أدنى إكراه ، و هو من هو في هذا المجال .
و بعد هذه القصيدة اتبعها بدُرر ٍمن القصائد المشهورة له ، التي انتقل بها إلى مراحل متطورة جداً من الحسن في اللحن و الغناء و الأداء ، أمثال : ( عش أنت ) و ( أضنيتني بالهجر ) للشاعر ” بشارة الخوري ” و قصيدة ( لا و عينيك ِ ) التي نظمها له الشاعر و الزجّال الكبير ” كامل الشناوي ” و رائعة ( يا زهرة في خيالي ) هذه القصيدة التي وصلت إلى العالمية ، حيث غنّاها أكثر من مغنٍّ عالمي باللغة العربية مجارياً الفنان الراحل ، في صوته و طريقة أدائه ، حرفياً و شكلياً ، فمن الجميل في الفكرة و من جميله علينا ، أنه جعل أولئك الفنانين ، الذين ينتمون إلى أمم أخرى ، يتغنون بلغتنا السامية في مفرداتها و معانيها .
و من مظاهر التطوير في قصائده هاته ، أنه عرف بموهبة الفنان الحقيقي كيف يصور للمتلقي ، الحدوثة التي تنهض عليها مفردات القصيدة ، من خلال الألحان و ما صاغه فيها من جمل موسيقية عظيمة تعاملت بإتقان ، مع كل حرف على أنه كلمة و لم تتجاهله ، لعلمه المسبق ، بأنّ الحرف في اللغة العربية ، هو من أقسام الكلمة ، ففي قصيدته : ( لا و عينيكِ ) جعل لحرف ( لا ) متسعاً من الوقت و هو ينطقه مترنماً في مطلع القصيدة ، ثم يرددها و هو على مشارف الانتهاء من القصيدة بشكل مُصوَّر ، إذ أنه ردّدها أكثر من مرة ، و كان في كل ترديدة ، يرافقه صوت ( صول ) لآلات الكمان المحتشدة فوق أكتف العازفين وراءه ، حتى لكأنه يشير إليك بسبابته ذات اليمين و ذات اليسار ، في إشارة موحية منه بالنفي ، كما يفعل الواحد منا عندما لا يكون راغباً في الكلام ، إذا أراد نفي أيِّ أمر كان ، بعد أنْ فرش و مهّد بآلته الموسيقية ( عوده ) تقسيماً أعده من أروع ما استمعت إليه من عزف على هذه الآلة الجميلة ، التي كان لها في هذه القصيدة سحراً شرقياً باهراً ، يأخذ بتلابيب العقل و الأذن و العين ، إلى حدّ الجنون ، خصوصاً عندما يلتحم صوت أوتارها مع الإيقاع و آلتي ( القانون ) و ( الكونترباص ) تحديداً عندما يترنم بالبيت الذي يقول فيه على لسان الشاعر :
و خيالي الذي سما بك يوماً .. يا له اليوم من خيال كسيح
أرجع بكم تواً ، إلى مطلع القصيدة لاستكشاف مظاهر التطوير و مكامن الجمال في هذه الرائعة ، فهو يبدأ مطلعه بلهجة عربية مُفخّمة ، خاصة حينما ينشد بهذه الكلمات من مبتدئها :
لا و عينيك ِ يا حبيبة روحي .. لم أعد فيك هائماً فاستريحي
سكنت ثورتي فصار سواء .. أن تليني أو تجنحي للجموح ِ
فهو عند نطقه للفظة ( ثورتي ) التي سبقها فعل السكون ، تتصاعد الموسيقا المصاحبة في ارتفاع مذهل مع صوته الذي يأسر كلمة ( الجموح ) لبرهة من الزمن ، بيّن به مقدرته الصوتية ، كل ذلك ، لأنه يعلم ما لهذه اللفظة ( ثورتي ) من ثقل ٍ و رهبة في قرارة من لم يصبه وقرٌُ في مسامعه ، و كذلك من معنى يحمل في طياته ، عظمة الشيء ، الذي يريد أنْ يعبّر عنه ، لذلك تجاهل فعل السكون ، الذي هو في الأصل فعلٌ غير مُفعـَّـل ، فالسكون فالحقيقة يعني انعدام الفعل ، ربما لأنه ابتغى أنْ يوضح كيف أنّ ثورته الأولى قد خمدت بفعل ما لقاه من حبيبته من فتور ، لذا غلّب الثورة على السكون ، فهو بذلك ، يود أنْ يشعر مستمعه بمصابه ، و ذلك ما ينجح في التعبير عنه مرة أخرى ، عند ذكره لكلمة ( الريح ) في صيغة المضاف و المضاف إليه ( مهب الريح ) في البيت التالي له بالتحديد ، فهو بعد شدوه لهذه الكلمة ، قفّاها بـ ( صول ) موسيقي بآلات الكمان ، ترجّم هذه اللفظة في شكل صوت الريح – لا ( الرياح ) – التي عادة ما تحدثه الزوابع العاتية ، فثمة فرق كبير بين هاتين اللفظتين لمن يدرك ذلك ، فحتى في القرآن الكريم ، ما جاءت كلمة ( ريح ) إلا و قد لحقت بها كلمة ( سوء ) فهي مؤذِنة لغوياً بالسوء و خراب العمران ، بعكس لفظة ( الرياح ) التي عادة ما يجيء وراءها الرخاء و الخير ، و هذا ما يعكس للقارئ و المستمع صحة ما أوردته في بدء هذه المقالة ، من حيث معرفة الجيل الذي ينتسب إليه هذا الموسيقار الكبير ، بأحكام النطق و معرفة مفردات اللغة العربية ، نتيجة ًلدراستهم الأولى في المدارس القرآنية ، و لمطالعتهم المستمرة للشعر العربي في العصر الحديث .
أما في تتمة هذه القصيدة ، نجده يصوّر لنا جميعاً ، مشهد خطابه لمحبوبته في وقار و حِدّة ، الذي يفرض عليه أنْ ينشده بصوته المفخّم ، و هوّ يذكرها بمدى إخلاصه و مهدداً إياها بأسلوب المحبّ المخلص .
كل هذه المعاني تستمعون إليها في هذه القصيدة الرائعة ، في وقت لا يتعدى الست دقائق و الثانية الواحدة من الدقيقة السابعة ، فأنا أنصحكم بالإنصات إليها :
قصيدة : لا و عينيكِ
نظم الشاعر : كامل الشناوي
لحن و أداء موسيقار الأزمان : فريد الأطرش
لا و عينيك ِ يا حبيبة روحي .. لم أعُد فيك هائِماً فاستريحي
سكنت ثورتي فصار سواء .. أنْ تليني أو تجنحي للجموح
و اهتدت حيرتي فسيّان عندي .. أنْ تبوحي بالحبِّ أو لا تبوحي
و خيالي الذي سما بك يوماً .. يا له اليوم من خيال ٍ كسيح ٍ
و الفؤاد الذي سكنتِ الحنايا .. منه أودعته مهب الريح ِ
لا و عينيكِ ما سلوتك عمري .. فاستريحي و حاذري أنْ تُريحي