جريدة القدس العربي
نصير شمه - كاتب وموسيقي عراقي
موسيقار الحكمة
لن نستطيع أن نتحدث عن العود والموسيقى الشرقية أو الطرب، من دون أن نأتي على ذكر الفنان الكبير فريد الأطرش، الذي استطاع أن يحفر اسمه في أكثر من مجال فني، كما بلوّر هوية خاصة سواءً في الغناء أو العزف على آلة العود. والحديث عنه لابد أن يتشعب، فقد كان فنانا معنيا بكل ما يدور حول الأغنية من تلحين وغناء وعزف، كما أنه حقق نجاحاً كبيراً في السينما الغنائية.
ما يميّز عود وأسلوب فريد الأطرش في العزف هو هويته الشرقية الواضحة، وترسيخ أسلوب في بناء التقسيم ليصبح شكلاً مبنياً قريبا جداً من التأليف، بمعنى أن الارتجال نفسه عندما يؤديه يصبح كأنما جملة لحنية متكاملة، ثم أن لديه سلاسة وتدفقاً في الجملة الموسيقية وتدرجها من الأصوات الغليظة إلى الأصوات المتوسطة ثم الحادة بهدوء وحكمة، مع حرارة الجملة ونفاذها للأسماع، نحو الذروة في قفلة مسرحية متسارعة تجبر المستمع على التفاعل وتنتزع التصفيق الحار.
الحكمة قد تكون إحدى صفات عزف فريد الأطرش على العود، الاستغراق في العزف إلى درجة نسيان المكان وربما الزمان والانتقال بالروح إلى حيث الأصابع، فتتحول أصابعه نفسها إلى كتلة من مشاعر حكيمة تتدفق بسلاسة متناهية وتسهل في بناء تقاسيم لا تتكرر كأنما تبني حوارا مصقولا في تتابعها. يتمتع الموسيقار فريد الأطرش بخصوصية عالية في المدرسة الشرقية كعازف ماهر وملحن بارع ومغن يجيد عدة ألوان من أساليب الغناء من بلاد الشام إلى مصر، كذلك منها الأعمال الطويلة والقصائد والطقطوقة، كما أن انفتاحه على موسيقى العالم جعل عمله متجدداً ومعاصراً وأحياناً ملحمياً. وكثير من ألحان الموسيقار الكبير تبرز ثقافته الموسيقية الواسعة، ولا أعني هنا تأثرا بقدر ما أعني استيعابا لثقافات مختلفة وإعادة بلورتها بأسلوبه الخاص، ولعل ألحانا مثل «لا وعينيك»، «أول همسة»، «علشان مليش غيرك «الربيع»، أو «قلبي ومفتاحه» وغيرها كثير قد توضح المعنى المقصود.
يُحسب للفنان فريد الأطرش تقديم العود بشكل جعله آلة محببة لكل العالم العربي، عندما خصص له افتتاحيات «أول همسة» و»الربيع» وكتابة (صولوهات) في أغانٍ أخرى مثل «لا وعينيك» وغيرها، كأنه صنع حالة ألفة وتصالح بين العود والمستمع العربي بشكل عام ومحبي العود بشكل خاص، لدرجة أنه أصبح رقماً صعباً في رموز المدرسة الشرقية بآلة العود، كونه قدم فكراً يُعد جديداً على عالم العود وروحاً شرقية خالصة تمزج جمال بلاد الشام وحرارة الحياة الفنية في مصر، البيئة الخصبة لأعمال فريد الأطرش. يحق لمحبيه الدفاع عن محبتهم له وتحيزهم لفنه، كونه قطبا فنيا كبيرا صنع مشروعه الخاص به وسط أسماء ضاع أمامها الكثير من الملحنين الذين ظهروا قبله ومعه ولم يحققوا ما حققه، على الرغم من قيمتهم الفنية المتميزة. كان فريد الأطرش يتنافس في أهم وأكبر ساحة فنية ومع نجوم الخط الأول، ومع ذلك حافظ على تفرده وخصوصيته في الصوت والعزف والتلحين. ولا يستطيع عازف عود ماهر أن يبني ثقافة موسيقية شرقية، أو حتى هوية حداثية مهما حاولت أن تصنع نقلة صادمة، أو حتى ما بعد حداثوية؛ أن يتجاهل مدرسة الموسيقار فريد الأطرش، فهي مدرسة قائمة بحد ذاتها، كما أنها مدرسة أسلوبية، وقد قل من استطاع أن يصنع أسلوبيته التي عاشت لأجيال.
من وجهة نظر شخصية، فإن فريد الأطرش عالم موسيقي، وعلمه الموسيقي الواسع جعله يبني أرتاما «جمع رتم» من إيقاعات متجددة وأحيانا مبتكرة. في التلحين، لا تأتي جملة الموسيقار منحازة لجمال الرتم وحسب، إنما تُعنى بشكل كبير بالبناء الملحمي للأغنية، أي أنه لا يلحن جملة موسيقية لمجرد أنها جملة لافتة، بل أنه يدرس علاقتها بالكلمات وبالبناء داخل الأغنية، وهكذا يتلقى المستمع أغنيته بمشاعره وليس فقط بأذنه، فجملة- على سبيل المثال- مثل «عدت يا يوم مولدي، عدت يا أيها الشقي» نستمع إليها ونحن نشعر بالخسران الذي أراده الموسيقار. كما أن أغنية مثل «يا زهرة في خيالي» بإيقاعها «الفالسي»، تستطيع أن تبني لنا صورة وليس مجرد إحساس، إذ أننا غالبا عندما نريد أن نتخيّل زهرة في أحلامنا، فإن خيالنا سيتجه إلى الانسيابية في حركة الزهرة التي تشبه انسيابية رقصة الفالس نفسها. أسلوبية فريد الأطرش حكمت عددا كبيرا من عازفي العود الذين عاصروه أو جاءوا بعده، وكثير من العازفين حاول أن يجعل من مدرسته نبراسا لنفسه، فلم يستطع الخروج من صورة الموسيقار الراحل، وبالتالي لم يصنع لنفسه مكانة خاصة، لأنه انضوى في مدرسة مارس فيها فريد الأطرش كل التقنيات الممكنة، وطور فيها بشكل متجدد دائما من غير أن يركن إلى النمطية. مثلت أسلوبية الفنان الكبير سواء في العزف أو التلحين أو الغناء انعطافة مهمة في الموسيقى الشرقية، ولعل ثقافته في علوم الموسيقى والإيقاعات نفسها استطاعت أن تدعم رؤيته الموسيقية في التلحين والعزف معا. وإن كان قد مضى زمن طويل على رحيل الموسيقار العملاق، إلا أنه وبين قلائل استطاع أن يتفرد بوجود دائم من خلال مريدين تحزبوا له وأسسوا جمعية محبي فريد الأطرش، التي شرفت بزيارتها في القاهرة، بل عايشوا مدرسته وكأنه حي بينهم، استلهموه ملحنا وعازفا ومغنيا، وقد أثبتت مدرسة الموسيقار العملاق أنها أيضا مدرسة عملاقة استمدت منه قدرتها على التجدد حتى في غيابه. هل كان فريد الأطرش الذي أبدع في تلحين أغنية «لحن الخلود» يدرك أن عنوان أغنيته التي كانت أيضا عنوانا لفيلم أدى بطولته، ستكون لحن خلوده في قلوب مريديه ومحبيه؟!