فريد الاطرش ظلمه النقد وانصفه الناس
{2}
قدم فريد الأطرش خلال مسيرته الفنية عدداً كبيراً جداً من الألحان الهامة التي أثارت جدلاً نقدياً واستحثت الدارسين على البحث والتحليل في هذا النتاج الكبير والغزير لموسيقار شق طريق الفن بكفاح مرير وموهبة حقيقية ومعرفة موسيقية عميقة جعلته جديراً بالمكانة التي وضعته في القلوب من المحيط الى الخليج كأحد أكثر الفنانين العرب جماهيرية على الإطلاق.
فريد الأطرش كان مؤسسة فنية مكتملة العناصر، هو مثلث موسيقي متساوي الأضلاع غناءً وعزفاً وتلحيناًفريد الأطرش كان مؤسسة فنية مكتملة العناصر، هو مثلث موسيقي متساوي الأضلاع غناءً وعزفاً وتلحيناً. فريد الاطرش المطرب يمتلك مساحة صوتية كبيرة متفردة ومتوائمة مع خصوصيته كملحن، وبالتالي كان يصعب على غيره أداء بعض ألحانه التي غناها بنفسه، لا سيما تلك التي ترتكز على إظهار مساحته الصوتية الهائلة وقفلاته الخاصة المميزة. صوت عملاق بإجماع الدارسين وذوي الاختصاص بغضّ النظر عن القماشة الصوتية التي قد يُختلف حولها بين «محبّ غالٍ ومبغض ضال». طوّع فريد أداءه الشامّي النشأة للغناء المصري بشكل مذهل، وقد أدى الموال المصري بأسلوبه الخاص الشامي الروح، فجمع الى الرقة والحنان وسلاسة الأداء المصري، العنفوان والقوة التي يتميز بها الاسلوب الغنائي لأداء الموال في بلاد الشام.
اما ألحانه للآخرين فكان يراعي فيها اسلوبهم الخاص وقدراتهم الصوتية في الأداء مع منحها اسلوباً فريداً كان يتميز به هو. لذلك كان باستطاعة أي متذوق للموسيقى أن يميز أعمال فريد الأطرش من غيرها بسهولة نظراً لوضوح بصماته وتفرد أسلوبه في تناول المقامات الشرقية وتوظيفها بطريقة تجمع بين المدرستين الشامية والمصرية مما يجعله صاحب اتجاه موسيقي حقيقي في تاريخ الفن العربي المعاصر.
الـعـود
قبل فريد الأطرش كانت آلة العود، كباقي آلات التخت الشرقي، تطرب الناس ولها مكانتها وموقعها المميز وسط التخت، لكنها لم تكن تفوق القانون مثلاً، من حيث مكانتها وتصدّرها أو قيادتها للتخت الشرقي ولا من حيث شغف الناس بها، حتى ظهر عود فريد الأطرش.
استطاع ان يحمل هذه الآلة من الصالونات الفنية والنخبوية الى صفوف الجماهير الشعبية العريضةهذه الآلة الشرقية الجميلة الموغلة في القدم والتي عرفت أسماء كبيرة من أمثال الرائد الموسيقي العظيم محمد القصبجي، والمعلم الكبير الشريف محيي الدين حيدر، وتلميذه جميل بشير وأخيه الاصغر منير بشير الذي عدّه النقاد من أهم عازفي العود في التاريخ المعاصر (بغض النظر عن رأينا الشخصي في هذه المسألة) والفنان صليبا القطريب وفريد غصن وغيرهم من الأعلام الذين ساهموا في النهضة الموسيقية العربية بشكل عام، وفي نهضة هذه الآلة العريقة وتطوير تقنياتها واكتشاف آفاق جديدة لقدراتها الكامنة. غير أن ذلك ظل في اطار النخب المهتمة بالموسيقى والدارسين والنقاد والفئات القادرة على ارتياد المسارح الخاصة. ان الاضافة الحقيقية التي سجلها فريد الأطرش في هذا المجال هي انه استطاع ان يحمل هذه الآلة من الصالونات الفنية والنخبوية الى صفوف الجماهير الشعبية العريضة.
كان عود فريد الأطرش يكاد ينافس فريد نفسه جماهيرية وعشقاً. ولم يحدث أن نالت آلة موسيقية ذاك الكم من التصفيق الذي كان ينفجر بمجرد ظهور عود فريد الأطرش على المسرح حتى قبل ظهور صاحبه. لقد بلغت آلة العود جماهيرية لم تعرفها قبل فريد الأطرش الذي جعل الجماهير العربية تلتفت الى هذه الآلة وتتفاعل معها حتى أصبحت بالفعل شغوفة بها. ولا نجافي الحقيقة اذا قلنا إن فريد الأطرش صاحب فضل على هذه الآلة. قدمها للناس بشكل مختلف وعزز مكانتها إذ جعلها سيدة حفلاته على المسرح، فساهم في تعريب الذوق الفني لدى قطاع واسع من الشباب الذي كان يرى في الغيتار الكهربائي آلة أثيرة في العصر الذهبي للفرق الموسيقية الغربية كالبيتلز وغيرها.
فريد الأطرش صاحب أسلوب متفرد غير تقليدي في العزف لم يسبقه اليه أحد. استطاع أن يخرج من العود امكانات لم تكن مكتشفة. وسيبقى السولو الخالد في مقدمة قصيدة «لا وعينيك» شاهداً على جدارة هذا العازف الكبير الذي منح هذه الآلة تقنيات جديدة حين عزف بالعود معزوفة أستورياس للمؤلف الموسيقي الاسباني إزاك ألبينيز، مما ساهم في توسيع آفاق وأبعاد هذه الآلة وفتحها على احتمالات تفوق الخيال
فريد الاطرش قامة فنية وانسانية عالية قدمت للعالم موسيقى عبّرت عن القيم والأخلاق الانسانية الرفيعة خير تعبير، ورسمت ملامح لمعاناة الانسان في صراعه المرير مع الحياة بحلوها ومرها، وكان نموذجاً للتطابق بين الفنان والانسان خلافاً لبعض معاصريه الكبار الذين قدموا فناً شامخاً لكنه كان قناعاً يخفي وجهاً انسانياً آخر لا يشبهه. ولا نقول ذلك بوصفه عيباً أو سلبية، ففي تاريخ الفنون عامة نماذج فنية وعبقريات لا علاقة لها بسيرتها أو بحقيقتها الانسانية، وليس في ذلك أي بأس لأن ما يعنينا بالدرجة الأولى هوما قدمته هذه النماذج الرائعة من خدمة جليلة للحضارة الانسانية. لكن هذا التطابق التام بين فن فريد الأطرش وشخصيته الانسانية كان لافتاً، لندرته في عالم المبدعين. ولا يمكننا فعلاً أن نفصل بين فريد الفنان وفريد الانسان، بين التسامح والجود والسخاء الانساني الذي اشتهر به وسخائه الفني الكبير، سواء في غزارة أعماله أو في تعامله الأخلاقي مع زملائه وموسيقييه الذين كانوا ينتظرون بشغف ولهفة لحظة دخولهم الى الاستوديو للعزف على مقام فريد الأطرش.
لا يمكننا ابداً أن نفصل بين ألمه الانساني وألمه الفني، بين طيبته في الحياة وطيبته على الشاشة أو في أغانيه ومعانيها بين حزنه الحقيقي وحزنه الفني الذي لم يكن يملك إلا أن يظلل ألحانه بضبابه. وهل هذا التطابق التام بين الفن والفنان الذي جسّده فريد الأطرش سوى انعكاس صارخ لذلك الصدق الكبير الذي رافقه كظله في علاقاته الفنية والإنسانية؟
هو ذلك الأمير الأطرشي الذي حمله البحر صغيراً من جبل الوطنية الى جبل الفن لينمو ويترعرع ويغدو أميراً كبيراً لفن عربي مشرِّف رسمت ملامحه هذه الثنائية الخالدة التي جمعت مصر وسورية، سياسياً وروحياً وثقافياً، في قلب عروبي واحد تألّق المجد على وقع خفقاته منذ فجر التاريخ السياسي والثقافي لهذه الأمة. ما أحوجنا اليوم الى أن نغني مع فريد الاطرش لهذا الوطن الكبير الذي ينزف فرقةً وتجزئة وانقساماً وفجيعة «على الله تعود بهجتنا والأفراح وتغمر دارنا البسمة والافراح».
فريد الأطرش ... ذلك الرجل الطيب الذي ظلمه النقد وأنصفه الناس.
المصدر: منتديات الموسيقار فريد الاطرش وشقيقته اسمهان- http://freed.arabstar.biz/