((أَرسلْتُ في الكون لحناً لا أبوح به لأنّ سـرَّ حياتي في حواشيه حسبي من العمر أنّ الكون ردّده لم يبقَ في الكون إلاّ مَنْ يغنّيه)) بيتان من الشعر قالهما الشاعر نوفل الياس في اسمهان.. من عام 1932 حتى عام 1944 في 14 تموز / يوليو يوم رحيلها، إثنا عشر عاماً من حياة اسمهان الفنية، جَسّدت مرحلة تاريخية إبداعية بامتياز حيث ارتقى الفن إلى حدّ منافسة كوكب الشرق أم كلثوم وصولاً إلى تهديد عرشها الفني بشكل جدّي.. والحقيقة تقال إن عمر اسمهان الفني لا يتعدّى الثماني سنوات لأن هناك أربع سنوات منها يوم تزوجت الأمير حسن الأطرش.. وفي هذه المدة القصيرة من عمر الزمن تجسّد مجداً لم يسبقها إليه أَحد.. وفي الفيلم الفرنسي الذي عرض منذ عدة سنوات في بيروت عن اسمهان تحت عنوان ((ديڤا الشرق)) باحتضان من السفارة الفرنسية ووكالة الأنباء الفرنسية امتلأت القاعة عن آخرها بمقاعدها الألف وعلقت عندها الوكالة الفرنسية: من الغريب إلى حدّ المعجزة كيف أن فنانة مثل اسمهان تستطيع وبعد سبعين عاماً على رحيلها أن يجتمع لحضور فيلمها ألف شخص في الداخل وأكثر منهم في الخارج عادوا إلى منازلهم.. فهذا الحدث ((أديت بياف)) نفسها لا تستطيع تحقيقه.. كل القامات الفنية الخالدة لحنت لاسمهان من فريد الأطرش إلى محمد عبد الوهاب إلى محمد القصبجي إلى زكريا أحمد إلى رياض السنباطي إلى مدحت عاصم وفريد غصن.. وهنا لا بدّ وللتاريخ من سرد قصة حصلت مع اسمهان عند انطلاق شهرتها عبر أول فيلم لها ((انتصار الشباب)) من بطولة فريد الأطرش. ذات ليلة من عام 1929 أي بعد طلاق اسمهان من ابن عمها الأمير حسن الأطرش، حضر ميشال بيضا صاحب شركة أسطوانات ((بيضا فون)) ومعه رجل من رجال السينما هو جبرائيل تلحمي وطلب الأخير من فريد ترك عمله بفرقة بديعة مصابني وتفرغ اسمهان لمشروعه الجديد. فقد حان لكليهما وقت دخول مرحلة فنية جديدة.. قدّم جبرائيل تلحمي لهما مشروع فيلم ((انتصار الشباب)) من إنتاج أفلام النيل.. ورشح التلحمي الفنانين القصبجي وزكريا والسنباطي لتلحين أغاني الفيلم، مما أثار غضب فريد الذي جاء سؤاله الواثق: ولماذا لا ألحن أنا هذه الأغاني؟ ألَسْتُ ملحناً؟؟ فأجابه جبرائيل: الجماهير تريد الأفلام الغنائية وتبحث دائماً عن الطرب! أحس فريد بأن هذه الكلمات إهانة كبيرة لفَنِّهِ وهدّد بالإنسحاب إذا لم تُعطَ له فرصة تلحين الأغاني.. تدخل حسني نجيب في الحديث قائلاً: أقترح أن يلحن فريد أغانيه ويترك أغاني اسمهان للملحنين الآخرين! هنا هبّ فريد الأطرش واقفاً من جديد وبغضب شديد قال: لا يوجد من يفهم صوت اسمهان مثلي! وبصوت خافت قال حسني نجيب لزملائه: هو رجل بلا ضمير! حكم على نفسه بالفشل بألحانه، فما ذنب شقيقته ليحكم عليها هي أيضاً بالفشل! ثمّ وجّه حديثه للحاضرين: يا جماعة لا تنسوا أن عبد الوهاب وأم كلثوم بصدد تصوير أفلامهما هذه الأيام؟ وبذلك سندخل في منافسة كبيرة.. أم كلثوم معها أكبر الملحنين وعبد الوهاب.. هو محمد عبد الوهاب! تدخل جبرائيل تلحمي في الحديث من جديد وأراد إنهاء الخلاف وطلب من الجميع الموافقة على قيام فريد بتلحين كل أغاني الفيلم. ووقع فريد واسمهان العقد بمبلغ 3000 جنيه مناصفة بينهما وبدأ العمل في تصوير الفيلم وكان الفيلم من إخراج أحمد بدرخان.. وشارك في التمثيل كبار الفنانين: أنور وجدي، روحية خالد، بشارة واكيم، حسن كامل، فؤاد شفيق، علوية جميل وظهرت سامية جمال وكانت ما زالت راقصة ناشئة بين مجموعة الكومبارس في أوبريت الختام. وعرض الفيلم في سينما ستوديو مصر في 24/3/1941 ونجح الفيلم بشكل أسطوري وانتشرت أغانيه بسرعة لا سابق لها... واستقبله الإعلام المصري بطريقة رائعة مرحباً ومشجعاً وعن ألحان هذا الفيلم قال فريد: تعتبر ألحاني في هذا الفيلم مرحلة جديدة في حياتي الموسيقية، قمت بمزج فني بين الطابع الشرقي الشعبي والإيقاع الغربي في ((التانغو)) و((الرومبا))، غير أني كنت أحرص ألا أنزلق إلى الاقتباس المباشر.. وغنّى فريد مع اسمهان الأغنية التراثية المستوحاة من ريف مصر ((ليه تشتكي أرضنا والنيل ساقيها)) وقدم للمرة الأولى أوبريت ((انتصار الشباب)) وفيه لأول مرة في تاريخ ((الأوبريت)) يدخل عنصر الكورال في الغناء. وأغاني هذا الفيلم طبقت شهرتها الآفاق وما تزال وهي: ((يا بدع الورد))، ((ياللي هواك شاغل بالي))، ((ايدي فايدَك))، ((يا ليالي البشر))، ((الشمس غابت أنوارها))، ((كان لي أمل)). وفي حادثة ثانية وكان ذلك عام 1940 أوائل أيلول/ سبتمبر أي قبل أربع سنوات من رحيلها ومن غريب المصادفات أن اسمهان كانت تمرّ في المكان نفسه الذي انتهت فيه حياتها، فشعرت بالرعب لدى سماعها صوت آلة الضخ البخارية العاملة في الترعة، وكانت تتمرن على قصيدة أبي العلاء المعرّي ((غير مُجْدٍ)) التي لحّنها لها الشيخ زكريا أحمد، استعداداً لتسجيلها في اليوم التالي للإذاعة، قالت اسمهان للصحافي محمد التابعي، رئيس تحرير مجلة ((آخر ساعة)) والذي كان يرافقها ((كلما سمعت مثل هذه الدقات تخيّلْتُ أَنها دفوف جنازتي)). والقصة الثالثة هي في فيلم ((غرام وانتقام)) عام وفاتها نفسه 1944 أمام الممثل الكبير يوسف وهبي.. وهنا أبدى فريد الأطرش مرونة كبيرة ومغامرة كبيرة بالقبول في المشاركة في تلحين بعض الأغاني، أما الأغاني الباقية فكانت من ألحان محمد القصبجي ورياض السنباطي وهما من عمالقة ذلك الزمن الجميل.. وكانت النتيجة بشكل واضح وصريح انتصار الأغنية الخالدة ((ليالي الأنس في ڤيينا)) والذي قال عنها الصحافي الكبير أنطوان بارود: ((من كان يصدق وأنه وقبل سبعين عاماً يستطيع فريد الأطرش أن يلحن ڤالس بهذا المستوى والذي شرّف الفالس نفسه وشرف الفالس العربي. وكانت أغاني الفيلم الأخرى: ((أيها النائم)) السنباطي، ((أهوى)) فريد الأطرش، ((نشيد الأسرة العلوية)) السنباطي، ((أمتي حترف)) القصبجي، ((يا ديرتي مالك علينا لوم)) فريد الأطرش و((أنا اللي استاهل)) للقصبجي. وهناك أحداث أغرب من الخيال في حياة الخالدة اسمهان ببُعدها الفني والوطني والإنساني وهي التي أحدثت زلزالاً حقيقياً في مسيرة الفن العربي.. ويسرّني وتخليداً لذكراها أن أستعرض بعض ما قيل فيها: 1- الموسيقار محمد عبد الوهاب صوت أسمهان ((إنه إلماس حين يتكسَّر)). 2- الموسيقار رياض السنباطي: ((إن اسمهان هي المطربة العربية الوحيدة التي وصلت إلى مرتبة منافسة أم كلثوم)). 3- الصحافي محمد التابعي: ((هي حمامة مطوّقة في قفص النغم الذهبي)). 4- الصحافي الكاتب كرم ملحم كرم: ((اسمهان تخطر في رجعة الغناء بمستطيل النجاح، فذاعت وشيكاً نباهتها وقد استعذبت الآذان الإسم والصوت)). يقول فيها بشارة الخوري الأخطل الصغير: ((هل الغناء إذا جرّحْتِ آهته عصـارة أكـباد لأكباد كأنه موجة بيضاء ناعمة يمشي الشراع بها في بحره الهادي)) ولدت أسمهان في الماء.. وانتهت حياتها المأسوية في الماء.. وبقي صوتها الخالد يصدح حتى الأزل.. المهندس محمود الأحمدية رئيس منتدى أصدقاء فريد الأطرش