قناعته صلَّى الله عليه وسلَّم باليَسير
وسؤالهِ ربَّه تبارك وتعالى أن يجعلَ رزقَهُ قوتاً ورغبته أنْ يكونَ مسكيناً
روى الشيخان, عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" اللهم اجعلْ رزق آل محمدٍ قوتاً ".
وروى الترمذي (2352), وصححه الألباني, عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة ". فقالت عائشة: لم يا رسول الله ؟ قال:" إنهم يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفاً. يا عائشة لا تردِّي المسكين ولو بشقِّ تمرة. يا عائشة أحبي المساكين وقربيهم, فإن الله يقرِّبك يوم القيامة ".
وروى مسلم (2959),عن أبي هريرة أيضا رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" يقول العبد مالي مالي, وإنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى, أو لبس فأبلى, أو أعطى فاقنى. ما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس ".
وروى أحمد (15785), وصححه الألباني, عن الضحاك بن سفيان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له:" يا ضحاك ما طعامك؟ قال: يا رسول الله اللحم واللبن. قال:" ثم يصير إلى ماذا؟ قال: إلى ما قد علمتَ. قال:" فإن الله تعالى ضرب ما يخرج من ابن آدم مثلا للدنيا ".
وروى الشيخان, عن أبي ذر رضي الله عنه قال: كنتُ أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرة بالمدينة, فاستقبلنا أحد فقال:" يا أبا ذر. قلتُ: لبيك يا رسول الله. قال:" ما يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهباً تمضي عليه ثالثة وعندي منه دينار؛ إلا شيء أرصده لدينٍ إلا أن أقول في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله وعن خلفه, ثم سار فقال:" إن الأكثرين هم الأقلُّون يوم القيامة إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله ومن خلفه, وقليل ما هم, ثم قال لي:" مكانك لا تبرح حتى آتيك..." الحديث.
وروى الشيخان, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من طعام ثلاثة أيام تباعاً حتى قبض ".
وروى الترمذي (2360), وصححه الألباني, عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيت الليالي المتتابعة وأهله طاويا لا يجدون عشاء وإنما كان أكثر خبزهم خبز الشعير ".
قال الإمام ابن حبان رحمه الله في "روضة العقلاء": من أكثر مواهب الله لعباده وأعظمها خطراً القناعة، وليس شيء أروحَ للبدن من الرضا بالقضاء، والثقة بالقسم؛ ولو لم يكن في القناعة خصلة تحمد إلا الراحة وعدم الدخول في مواضع السوء، لطلب الفضل لكان الواجب على العاقل أن لا يفارق القناعة على حالة من الأحوال.
وقال: العاقل يعلم أن الإنسان لم يوضع على قدر الأحظاء: وأن من عدم القناعة لم يزده المال غنى، فتمكن المرء بالمال القليل مع قلة الهمِّ أهنأ من الكثير ذي التَّبعة، والعاقل ينتقم من الحرص بالقنوع، كما ينتصر من العدو بالقصاص؛ لأن السبب المانع رزقَ العاقل هو السببُ الجالب رزقَ الجاهل.
وقال: القناعة تكون بالقلب: فمن غنى قلبه غنيت يداه، ومن افتقر لم ينفعه غناه، ومن قنع لمَ يَتسخَّط، وعاش آمناً مطمنئاً. ومن لم يقنع لم يكن له في الفوائت نهاية لرغبته، والجدِ والحرمان كأنهما يصطرعان بين العباد.
وقال: من نازعته نفسه إلى القَنوع، ثم حسد الناس على ما في أيديهم فليس ذلك لقناعة ولا لسخاوة، بل لعجز وفشل؛ فمثله كمثل حمار السوء الذي يَعَرج بخِفةَّ حمله، ويحزن إذا رأى العلف يؤُثَر به ذو القوة والحمل الثقيل، فالقانع الكريم أراح قلبه وبدنه، والشَّرِه اللئيم أتعب قلبه وجسمه، والكرام أصبر نفوسا، واللئام أصبر أجسادا.
قال الشاعر:
تقنَّع بالكفاف، تعش رَخِيَّا ولا تبغ الفضول من الكفاف
ففـي خبز القَفار بغير أدم وفي ماء الفرات غِنيً وكاف
وفي الثوب المرقع ما يغطَّى به من كل عُرى وانكشاف
وكل تزُّيـن بالمرء زيـن وأزينـه التزين بالعفـاف
وقال آخر:
لعمرك ما الأرزاق من حيلة الفتى ولا سبب في ساحة الحيِّ ثاقب
ولكنهـا الأرزاق تُقْسَم بينهـم فما لك منها غير ما أنت شارب
لو كان في صخرة في البحر راسية صَمّاء ملمومة مُلْمنٍ حواليهـا
رزقٌ لعبـد بَرَاه الله لا نفلقـتْ حتى تؤدِّي إليه كـلَّ ما فيهـا
أو كان بين طِباق السبع مَطْلبـه يوماً لسَّهـل في المرْقَى مراقيهـا
حتى ينال الذي في اللوح خُطَّ له إن هُـو أتاه، وإلا فهْـوَ آتيهـا