تحليل لأغنيّة «الرّبيع» – نعيم المامون لا يحلو استقبال "سيِّد الفصول" لعشّاق "بلبل الشّرق" موسيقار الأزمان فريد الأطرش إلاّ بالاستماع له وهو يصدَح بأغنيّته الخالدة.. "الرّبيع" الّتي تبشّر بمقدمه.. ولعشّاق "الفريد" أقدّم هذا التّحليل الرّائع للأغنيّة الّذي قام به الكاتب اللّيبيّ "زياد العيساوي".. ومن جميل الصّدف أنّه اختار لتحليله حفل أبريل 1961.. وهو الحفل الّذي كتبت عنه اليوم.. ووضعت رابطه مجدّداً – وأعيد - لمن أراد الاستماع له والاستمتاع به أثناء قراءة هذا المقال الممتاز بكلّ المقاييس.. فقراءة ممتعة [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] " قدّم لنا الموسيقار الخالد " فريد الأطرش" رائعة من روائعه الطّويلة الزّمن، وفيها يستشفُّ المستمع المعاني (الجميلة) والمبادئ (السّامية) الّتي استمرّ عليها واستمرأها واستغرق في أدائها، فهو مضى على هذا النّهج العاطفيّ الّذي بدأ به في مضامين أعماله جميعاً حتّى القصيرة، مثل «مخاصمك يا قلبي» و«علشان ما ليش غيرك» وما نحوهما من تحف فنّيّة خالدة، إذ أنّه اختار "جلد الذّات" لا وضع اللّوم على المحبوب في معظم أعماله العاطفيّة، إنْ لم يكن في جلّها، فما رأيكم إذن في أنْ نخطو خطوة أكثر اتِّساعاً، بقدر طول الأغنيّة الآتية وهي أغنيّة «الرّبيع» الّتي أنتجها في أربعينيّات القرن المنفرط، لنتدفّأ بالشّجن الّذي يتراقص على أنغامها، في هذه اللّيالي الباردات؟ في الحقيقة، إنّ لهذه الأغنيّة أكثر من تسجيل... لكنّي أحببت أنْ أُسمِعكم هذا التّسجيل لهذا الحفل المَهيب الّذي أقيم على شرفه، وقدَّمه الرّاحل لجمهوره في السّتّينيّات بالقاهرة (الاثنين 10 أبريل 1961 بسينما قصر النّيل)، فبمجرّد أنْ يمتشّق عوده يبدأ في الدّندنة عليه، نلحظ سمعاً كم كان الحضور يتحرّق شوقاً لصوت الرّاحل، وكم هو متلهّف للغناء في حضرة الحُضور، فبعد التّقسيم الّذي جاء على أوتار عوده و تفاعل المتلقّين معه، على الرّغم من أنّه كان يكرّره في أغلب حفلاته، تتداخل الآلات الموسيقيّة وتلتحم فيما بينها وبمختلف أنواعها، لتنصهر بدفء اللّحن، مُنتِجة ًمقطوعة ًموسيقيّة استمرّت زُهاء الثّلاث دقائق فقط هي بتصوّري من أجمل ما يكون في تاريخ الموسيقى العربيّة الحديثة، ولو ركّز المستمع جيّداً سينصت إلى الرّاحل وهو يحُثّ الفرقة على الإسراع للاندماج في اللّحن وعلى نسق واحد، حيث إنّ "فريد" تفرَّد من دون مجايليه بخاصيّة مهمّة، وهي أنّه، لم يكن من ذلك النّوع الّذي يُعيد المقطوعة الموسيقيّة في العمل الواحد لأكثر من مرّة - كما كان يفعل الملحّنون الآخرون - إلاّ بطلب وإلحاح من الجمهور، كما أنّه لا يعتمد كثيراً على إظهار موسيقى ألحانه بتوزيعات مبهرة، بل إنّه يكتفي بإسماع المتلقّي جُمله الموسيقيّة على نحوٍ مقبول ومعقول، مكتفياً بجوهرها وما تكتنفه من جماليّات، لا بشكلها الظّّاهريّ، و ذلك يبدو جليّاً حتّى من تشكّل الأطقم الموسيقيّة الواقفة وراءه في حفلاته المصورّة تلفزيونيّاً الباقية حتّى الآن، والّتي قلّما تُذاع في الفضائيّات المعنيّة، على النّقيض من حفلات سواه من المطربين من ذلك الزّمن الجميل، لنقرأ في الحال، كلماتها المزدهرة بأجواء الفصول الأربعة - بألوان الرّبيع ورياح الخريف وليالي الشّتاء الطّويلة وحرارة الصّيف - الّتي صاغها بحبر الذّهب الخالد الصّائغ المشهور بمفرداته "مأمون الشناوي" [كلمات الأغنيّة]: من يطالع كلمات هذه الأغنيّة سيظنّ للوهلة الأولى بأنّ مضمونها يختلف عمّا كنت قد أشرت إليه في مستهلّ هذه المقالة من حيث إنّ أغلب أغنيّاته العاطفيّة اتّصفت بـ"جلد الذّات"، وهذا ما يبدو لأسماعنا إذا قمنا بتحليل بنائيّ لكلّ "كوبليه" على حِدة، فما ورد في المقطع الأول، الخاصّ بفصل الرّبيع، وما أوقعه وأحدثه غياب الحبيب في هذا الفصل على نفسه لأمرٌ يصعب تصديقه، فقد ارتبط مذاق هذا الفصل لديه بوجود الحبيب أيّام كان لمظاهر الطّبيعة معناها الحقيقيّ وللحياة طعمٌ جميل، لذا فهو يستهلّ الأغنية وهذا المطلع تحديداً بالاستفهام عن غيابه الّذي يتضمّن معنًى واحداً وكفى، هو الشّوق إليه لا هُجرانه، لكأنّه هو من سبّب في رحيل محبوبه، ويودّ رضاه بعدما قاسى من بُعدِه عنه، حينما يطلب نادماً إلى الزّمان أنْ يُرجع أيّام الوصال بينهما: أيّام رضاه يا زماني هاتها وخذ عمري اللّي رعيته رماني فاتني وشغل فكري ذلك أنّه يشعرك حينما يشدو بقفلة البيت بأنّه كالّذي يعود بنفسه إلى تلك الأيّام الخوالي عندما يغنّي مبتسماً: " وأنغامه بتسكرنا أنا وهو" فهو ينطق قفلة هذه الشّطرة، وهو يبتسم لتلك اللّحظات الحلوة الّتي تخطر بباله. أمّا في المقطع الثّاني، ولهول ما جرى فيه، حيث إنّه من خلال كلماته الّتي اختار أنْ ينغّمها على منوال الموّال العربيّ المُحزِن، نستنبط أنّ العهد على الوفاء بينهما كان خلال هذا الفصل"الصيف" حتّى أصبح كل شيءٍ في هذا الفصل الجميل الّذي شهِد ذلك العهد لا يُطاق بالنّسبة له، فتبدَّلت الألوان وتحوّلت الأشياء إلى نقيضاتها، و هذا دليلٌ آخر على حنينه لما كان بينهما، وهذا ما جعل النّاي يبكي معه وهو يردّد هذا الموّال بهذا الشّجن الشّجيّ والغنيّ بالحزن، ولمن يصف أعمال الرّاحل بالمُحزنة والجالِبة للكآبة، أقول : "أنّى له أنْ يغنّي هذه المعاني بغير الحزن الّذي يحسّ به؟" . يمضي بنا بعد ذلك إلى ثالث هذه المقاطع الموسميّة أو الفصليّة، وهو فصل الخريف ، بتتابع و توالٍ مُنتظِم، بعد أنْ يفرشه بفاصل موسيقيّ، هو عينه الّذي بدأ به أغنيّته، وفي هذا الفصل ينشد أجمل ما جاء في هذه الأغنيّة - بحسب ذائقتي - حينما يخرج المجموعة الصوتيّة من صمتها الّذي طال ويجعلها تردّد من خلفه آهة الحسرة والوجع والنّدم لما لهذا الفصل من سمات الاضطراب الّتي تجعل المرء فينا يحتاج إلى من يؤنسه ويتدفّأ بقربه، وينجح كثيراً في اللّحمة الصّوتيّة "الوجعيّة" حينما تنصهر أصوات الـ"كورال" من النّساء والرّجال فيما بينها، فالأوليات يُعبّرن عن الطّرف الآخر، والأخيرون يمثّلونه، فهذا بتصوّري ما أراد أنْ يُعبّر عنه من خلال هذه الأوجاع والآلام المسموعة، ثمّ يجيء ليعلن عن استحالة نسيان محبوبته في نهاية هذا المقطع وقتما يغنّي : "لا القلب ينسى هواه .. و لا حبيبي بيرحمني". و بعد هذه الجرعة الخريفيّة المحزنة، يأتي بأخرى هي الأكثر إيلاماً، حين دخوله إلى فصل الشّتاء، فيبدأ هذا المقطع بصوت زمهرير العواصف من خلال عزف الآلاتيّة على آلات الكمان المحتشدة، لكنّه - وهو المعروف بلحظة الإدهاش - سُرعان ما يفاجئ المستمع الحاضر بفاصل موسيقيّ مُدهِش للأسماع، لكونه راقصاً، حتّى سحر الجمهور وجعله يخرج من حالة الحزن والوجد الّتي كانت تسيطر عليه طوال الدّقائق الماضية، بالتّصفيق والهرج والمرج والهتافات على رنّات عوده الّتي تظهر جليّة للآذان، على الرّغم من علوّ أصوات الآلات الأخريات، بعد أنْ ألقى على مسامع الحضور بيتي هذا الـ"كوبليه" بشكل سريع من دون غناء، لأنّ اللّحن الّذي يفترض به أنْ ينغّمه لهذين البيتين سوف يُحدث شيئاً من التّناقض مع هذا الفاصل العجيب في وقته وجملته. و لكي تتمّ هذه السّنة الّتي قضاها بعيداً عن محبوبته، لا بدّ له من أنْ يعود بنا إلى فصل الرّبيع ثانيةً، في المقطع الخامس، لذا أخذت الأغنيّة اسمها من هذا الفصل وعُنوِنت به، مع أنّه لم يذكر هذا الفصل كمسمّى مثلما فعل في المقاطع الأربعة السّابقة، لكنّه يأتي على ذكر مظاهره "الطير والنّسمة والأغصان" وهي المذكورة في أوّله، منادياً إيّاها وراجياً منها أنْ تعيد إليه الحبيب بعد مُضيّ عامٍ بالتّمام على غيابه، فقد توقّفت الحياة بملذّاتها وطعمها لرحيله عنه، و مع ذلك فهو ما يزال يعيش على أمل رؤيته في هذا الفصل الأخضر، وإنْ أبدى عتبه عليه في نهاية هذا المقطع الأخير من هذه البديعة الرّبيعيّة الخضراء. ننتهي من خلال ما تقدّم إلى نتيجة واحدة مَفادُها أنّ الفنّان الراحل" فريد الأطرش" كان يصوّر في أغانيه الطّويلة، مشاعر وأحاسيس يتعذّر على أيِّ فنّان آخر أنْ يجعلك تعيش أسرارها، فلا غرابة في ذلك إذن، و لا غرابة كذلك في أنْ تكون هذه المقالة طويلة، لكي تغدو بحجم وطول هذا النّمط من الأغاني الّذي أبدع فيه هذا الفنّان الكبير، وأتحفنا به من درر..." (بتصرّف)
شكرا لك أخي الكريم نعيم المامون على موضوع تحليل لحن الربيع للموسيقار الكبير تحياتي الخالصة لك على الجهد الكبير و حضورك المميز ربنا ما يحرمنا منك و من عطائك الجميل و دمت في أحسن الأحوال
الربيع تحفة الغناء العربي كله لاتزال حاضرة منذ ستين سنة في وجدان العالم العربي من محيطه الى خليجه في ظاهرة غيرمسبوقة في تاريخ الغناء اشكرك اخي مأمون على تقديمك لهذه المقالة الرائعة للكاتب القدير زياد العيساوي والشكر الكبير موصول للكاتب الكبير زياد ودمت بخير
الكاتب الليبى الشهير زياد العيساوي معروف بحبه للموسيقار وهو منصف فى كل كتاباته وهذا مقال من مقالاته الشهيره عن الربيع تحفة الغناء العربي كما ذكر استاذنا الكريم وليد علبى وستظل الربيع هى اغنيه الربيع بلا منازع لابد الابدين طالما هناك ربيعا مع الشكر لكم اخى القدير استاذ نعيم المامون على المقال المنصف والرائع جزاكم الله خيرا وبارك فيكم