عبقري النغم الخالد
جلال الدين
الحديث عن اسطورة الغناء العربي وعبقري النغم الخالد الموسيقار فريد الأطرش يتجدد دائما كلما استمعنا إلي رائعة من روائعه الغنائية أو شاهدنا فيلما من أفلامه الاستعراضية ويصبح للحديث متعة وقيمة كلما حلت ذكراه بعد أن رحل عنا وترك لنا تراثا ضخما من الألحان والأغنيات والأفلام ليكسب به كل يوم جمهورا جديدا من الأجيال التي لم تعش زمانه..
هذه العبقرية أكدتها رسالة الدكتوراه التي قدمت الي جامعة السوروبون عام 1954 حول أعماله خلال الفترة الواقعة بين بداية الأربعينيات وأوائل الخمسينيات وهي فترة التوهج والعطاء التي قدم لنا فيها أحلي ما عنده وحصل بمقتضاها الباحث محمد سامي حافظ علي درجة الدكتوراه والتي أكد فيها ان أغنيتيه "الربيع" و"أول همسة" تعدان ذروة التعبير عن عبقريته الموسيقية وان صوته الشجي سوف يظل صوت ملايين المحبين. لقد استطاع صاحب هذه العبقرية الفريدية أن يخترق الصفوف ويفرض نجوميته في وقت كان يسيطر فيه علي ساحة الغناء عملاقا الطرب أم كلثوم وعبدالوهاب ورغم مرور ستة وثلاثين عاما علي رحيله إلا ان تراثه مازال في قمة توهجه.. فما هي أسباب هذا التوهج وما هي أسرار هذه العبقرية؟!!
لقد تجلت عبقريته منذ فيلمه الأول "انتصار الشباب" عندما أصر اصرار الواثق من فنه علي تلحين جميع أغنيات الفيلم له ولشقيقته القيثارة الذهبية اسمهان رافضا رأي منتجه "جبرائيل تلحمي" الذي ساورته المخاوف من الخسائر الفادحة التي قد يصاب بها لو غامر وأسند مهمة التلحين لمطرب وملحن ناشيء لم يتأكد نجاحه بعد وأصر فريد حتي لو أدي الأمر الي ضياع الفرصة التي كان يتحرق شوقا اليها وأمام اصراره وثقته في نفسه رضخ المنتج ونجح الفيلم نجاحا باهرا حيث قدم فيه ألحانا مازالت ملء السمع والبصر وخاصة الأوبريت الذي حمل نفس اسم الفيلم والذي أشاد به المؤرخ الموسيقي سعد الله أغا القلعة وزير السياحة السوري في الدراسة التي أعدها عن حياة وفن فريد عرضتها بعض الفضائيات أكثر من مرة في ثلاثين حلقة وأكد فيها تفتح فريد المبكر علي الموسيقي الغربية وقدرته علي التطوير بما لا يخرج موسيقانا عن طابعها الشرقي.
كانت حياته دراماتيكية ثرية تقلب فيها بين الاستقرار والتشتت.. الهناء والشقاء.. الفقر والغني.. السعادة والألم.. كانت حياته شديدة الشبه بحياة شاعرنا الكبير كامل الشناوي فكلاهما جمع بين المتناقضات ففيهما أمل وتشاؤم.. فرح وحزن.. كانا يضحكان ويبكيان لأبسط الأسباب.. وكلاهما كان يتعطشان للحزن والشجن والإثنان عبرا عن نفسيهما بإحساس صادق.. الشناوي عبر بالكلمات وفريد عبر باللحن والغناء وجاءت قصيدة "عدت يا يوم مولدي" تعبيرا صادقا وأمينا عنهما.
ان المتتبع لفن فريد يلحظ بوضوح انه كان يسرد لنا سيرته الذاتية في كثير من أعماله فالإسم المفضل في أفلامه فريد أو وحيد والتصوير اما في مسكنه في دار الهنا في الزمالك أو في قاعته الشرقية الفخيمة في العمارة المطلة علي النيل. ففي فيلم "قصة حبي" عرض لنا لمحات عما أشيع عن رغبته في الزواج من الملكة "ناريمان" وفي فيلم "إزاي أنساك" حكي لنا قصته مع "سامية جمال" وفي فيلم "أحبك أنت" ألقي الضوء علي دوره في الموسيقي والغناء من خلال أوبريت "الشرق والغرب" تضمن حوارا بينه وبين المطربة شافية أحمد.. هو يتغني بمحاسن الموسيقي الشرقية وهي تتغني بمحاسن الموسيقي الغربية وينتهي الحوار بالاتفاق علي التعاون بين الفنين لأن الفن ليس له وطن وانه ملك الخلود ومن ثم لابد من مسايرة الزمن وتقديم فن جديد يجمع بين الاثنين وهو ما فعله فلم يكن تقليديا في شرقيته وانما كان متطورا وأعطي للموسيقي الشرقية أفكارا جديدة لم يعطها ملحن آخر ممن عاصروه علي حد قول بليغ حمدي في كتاب صدر بعنوان "فريد بين الفن والحياة".
أما أغنياته فجاءت بعض أفكارها من عندياته والبعض الآخر من الشعراء الذين اقتربوا منه وأجادوا التعبير عنه.. ففي أغنية "يا زهرة في خيالي" للشاعر صالح جودت رثي فريد فيها شقيقته اسمهان وعبر عن ذاته بقوله "ووهبت العمر أوتاري ولحني.. وتغنيت فداويت جروحي" غنوته كانت شكواه.. أما غنوة "وحياة عنيكي" فقد استوحي كلماتها الشاعر اسماعيل الحبروك من فشل تجربته مع الفنانة شادية.. وعبر الشاعر مأمون الشناوي عن فشل كل تجاربه العاطفية في غنوة واحدة هي "حكاية غرامي".. علي ان فريد لم يعبر عن حاله فقط وانما عبر عن كل فئات الشعب العربي وعن كل المشاعر الانسانية بحلوها ومرها بحيث يستحيل أن تجد حالة شعورية واحدة يمر بها الانسان دون أن تجد له غنوة أو أكثر تعبر عنها. كان يغني ما يحس به ولا ينافق وكان غناؤه يخرج من القلب وما يخرج من القلب يحل في القلب.. كانت موسيقاه وأغانيه أحد الملامح البارزة للشخصية العربية التي حاول الاستعمار ومايزال يحاول محوها.. فتمسكه بالشرقية في ألحانه وبالعروبة في صوته غذي الشعور القومي والإحساس بالعروبة لدي المواطن العربي من المحيط الي الخليج واليه يرجع الفضل في نشر اللغة العربية في شمال افريقيا.. ولذا فمازال فنه باقيا في الأذهان وفي الوجدان لحنا خالدا وقمة من النادر أن تطاوله قمة أخري وأن يستحق أن يطلق عليه اسم "المطرب العربي" لأنه عبر عن كل العرب وأن يوصف بأنه عبقري النغم الخالد.. رحمه الله رحمة واسعة وعوضنا عنه خيرا.