وقبل أن تغادر سيمون ده لامار القاهرة نقلت إلى فريد سراً ملكياً . قالت له أن فاروق يكرهه ، ويكره كل رجل تحبه النساء ... أما فريد فقال لها :
_ وأنا أكرهه لأنني لا أحب أن يجلس ملك بلادي على الموائد الخضراء في أوروبا ، ولا تتحدث الصحف إلا عن مكاسبه وخسائره ومغامراته ونزواته !
***
تزوج الملك فاروق من ناريمان ، فلما سألها عن مطربها المفضل قالت :
_ فريد الأطرش !
وكان فاروق يحب أن يحقق لها كل ما تريد حتى ولو كان فريد الأطرش ما تريد . فطلب إلى خالها مصطفى صادق أن يدعوا فريداً للغناء في القصر ! أما فريد فقد كان فرحاً بهذا خصوصاً وأن الخال ((الملكي)) قال لفريد :
_ كانت ناريمان فقيرة ولا تستطيع أن تدفع لك أجر الغناء عندها .. أما اليوم فهي ملكة ..
_ أما أنال فلا أريد أجراً .. يكفي أنني موضع تقدير !
وأحس فريد بالخيلاء وهو يرتدي ثيابه ليذهب إلى القصر الملكي ، وكان يعرف أن ثمة عدداً من الفنانين يحومون حول القصر ويرسلون الوسطاء ليرشحوهم للغناء فلا يظفرون إلاّ بالرفض .. ها هو ذا يذهب إلى القصر مدعواً والكرامة في ركابه .. وقد استُقبل بالترحاب ، وأحاطه أهله بتكريم بعيد عن تأنق البروتوكول وعقد الارستقراطية ونظر فيمن حوله فرأى الملك والملكة والأمراء والأميرات .. وأحس اضطراباً ، وهو حين يضطرب تتسلل من نفسه ثقته بنفسه ، وليس عنده من سلاح لاسترداد الثقة إلا أن يمسك العود ! العود سلاحه وقلمه وبطاقته وجواز مروره ! واحتضنه بين يديه .. وكانوا يتحدثون فقال لنفسه سأجبرهم على الصمت ، وضبط الأوتار وحديثهم لا ينقطع .. وبدأ يعزف على العود .. وللعود بين يدي فريد أنين وتوسلات .. وفيه رقص وتموجات سعادة ، ثم يعود للأنين فيلمس القلب ويعقد اللسان . وران الصمت على الجميع .. وتبادلوا نظرات الإعجاب وفريد ينتقل من مقطوعة إلى مقطوعة ، ومن معنى إلى معنى وكل ما ترسله الأوتار يغوص إلى كل القلوب المحيطة به ! لطالما سمعوه يغني ولكنهم عمرهم ما سمعوه في تقاسيمه الفريدة ، وما كاد ينتهي بعد نصف ساعة من عزف متصل حتى صفقوا له وأطروه فنه وتركوه للراحة لدقائق وبدأت الطلبات تنهال عليه ، فقدم طلبات الملكة على من عداها ثم أرضى كل من يعشق أغنية من أغانيه ! وغادر القصر الملكي مع الفجر وهو راض سعيد !
وذهب بعد ذلك مرات كثيرة ! مرة كان في قصر خالها في شارع الهرم وانقطع تيار الكهرباء وساد الظلام ، وتناثرت الشموع في أرجاء الحديقة التي كانت المصابيح الكهربائية تتدلى من أشجارها كعناقيد العنب، فلم تفلح الشموع في الإضاءة ، وأمر فاروق بأن تتجه مصابيح السيارات إلى داخل الحديقة وتضاء كلها ! وعلى أضواء مصابيح السيارات غنى فريد حتى مطلع الفجر !
وبدأت أسرة ناريمان تفتقد فريداً كلما غاب عنها أسبوعاً ، ولم يعد الأمر أن يغني ويمضي .. صار صديقاً لهم ، وكانت أمها تحوطه بالحدب والرعاية في وقت كانت لفتة منها تعتبر فضلاً سابغاً ومنة كريمة .. أليست أم الملكة ؟
وأحب فريد حياة الأسرة وهو يرى هذه السعادة في البيوت ، وبدأ يؤمن بأن الحياة فيها من ألوان المتعة غير ما اعتاد ، وفيها من ضروب الوفاء غير ما ألف وتساءل فريد :
_ إلى متى أظل وحيداً بلا من تحيطني بحبها ؟ ولماذا لا أصنع بيتاً وأنجب أولاداً يمرحون ، ويحملون من بعدي اسمي !
وقال فريد لنفسه وكأن يصرف نفسه عن نـزوة عبرت أفق خياله:
_ كلا لست وحيداً وأنا صديق أسرة الملكة ، إنهم الذين يدعونني إلى بيوتهم وقصورهم وعمري ما فرضت نفسي عليهم ، لن أصنع بيتاً لأنني أصنع الألحان ، لا أريد أولاداً فإن صخبهم سيطغى على رنة الوتر فتتبدد الأنغام من نفسي ، كبار الموسيقيين لم يهتموا بإنجاب ذرية للبشرية ، إنما اعتنوا بأن يتركوا لها تراثاً من نبض عبقرياتهم ! أولادي ألحاني فلتبق من بعدي حاملة اسمي ولتذهب قيود الزواج إلى الجحيم !
***
ومضى فريد في حياته الصاخبة ، سهر حتى مطلع الفجر بين الأصدقاء ، أو عند الأسرة الكريمة التي أحبته ، وفي الصباح يدندن على العود بخواطر جديدة وألحان جديدة .. فإذا اشتمل اليوم على سباق فإنه يذهب ليقامر ويمشي بيده على ظهور خيله التي أصبحت التسلية الأولى في حياته .. ورضي بالفراغ عن قناعة.
ولكنه كان يحس في قاعه جيشاناً ! كان يحس أنه يجتاز فتـرة الهدوء التي تسبق العاصفة .. وكان يحس أن قلبه كأرض عطشى .. تشققت ويبست وباتت تتطلع إلى السماء تطلب قطرات الحياة !
: