بادئ ذي بدء، لنستمع معاً لاغنية" قالت لي بكره" من كلمات الشاعر والزجّال: حسين السيد، ولحن وأداء الموسيقار فريد الأطرش ثم سيكون لنا حديثٌ عنها. لا غرابة في مضمون هذه الأغنية القصصي، فقد ألـّفها الشاعر الكبير حسين السيد المعروف بنصوصه الغنائية الدرامية، ومن ضمنها ما تغنى به هذا الفنّان الكبير من أنغام جميلة، مثل "ارحمني وطمني" و"يا بوضحكة جنان" و"أكلك منين يا بطة" والأخيرة من أغاني الأطفال، وقد شدت بها الفنانة صباح وغيرها العديدات، فهي جميعها تتسم بهذا الطابع الغنائي المتميز والنادر، ولا غرابة أيضاً، في أنْ تظهر للأسماع بهذه الروعة، فوراء ذلك، تقف قامة موسيقية عظيمة وخامة صوتية فريدة في عطائها الفني. إنّ مقدمة الأغنية الموسيقية، التي استهلتها الفرقة الموسيقية بآلة القانون، تبيّن وتعطي من الوهلة الأولى إحساساً بأنها أغنية زمنية، أي بقصد،أنّ في مضمون كلماتها، يكمن العامل الزمني وهو انتظار الموعد، فنقرات العازف على آلة القانون، وأظنه قائد الفرقة الماسية المايسترو أحمد فؤاد حسن هي من توحي بهذا الإحساس التمهيدي الذي درج عليه فريد الأطرش في ألحانه وموسيقاه وأغنياته، ثم يندبُ حظه العاثر، الذي بدأ يُسرِّب إليه شيئاً فشيئاً الشكوك في أمر غياب من ينتظرها، ثم يعود ليمحو دائرة الظنون، التي تدور به، بإعادته لهذا البيت عند نهاية كل مذهب وكوبليه "وح استنى ليه ما استناشي لحد بكره". ثم يأتي ليلقي باللائمة على الفجر -فجر يوم اللقاء- كأنه رأى أنه قد أتى قبل ساعته، ومنعه من أنْ يبدأ يومه الموعود ممتعاً ناظريه برؤية محبوبته، فهي بـِطلتها في عينيه أجمل من طلعته، بعدما صوّر لنا إقبال الفجر بتباشيره، وهو يختال ويمشي الهوينى، على موسيقا حديثة هي شبيهة بالموسيقا الصينية الآتية من أقصى الشرق، جهة مجيء الفجر وشروق الشمس. ثم يتسول إليه بحزن مُفرِّح ليستبقيه في الانتظار هو الآخر، معانداً حتى الطبيعة لما يطلب إلى الفجر أنْ يؤخر في قدومه، حينما يهمس إليه في الكوبليه الثاني "زمانها جاية كمان شويه" ويحاول أنْ يصفها له، لعلـَّه يتراجع عن ذلك، وليتهرب من الجرح الذي قد يصيبه، فهو كالذي لا يريد أنْ يبدأً اليوم أصلاً، فيعطي لها فرصة انتظار أكثر بتأجيل اليوم المرتقب، لكأنه أحسّ بأنها ستخلف وعدها. إذن فهي دراما غنائية مصورة، قام الموسيقار الكبير بتصويرها لنا من خلال لحنه وموسيقاه وأدائه وإظهار المؤثرات الصوتية، التي يتمتع بها من حشرجات وارتعاشات، ليكون بهذه التقنيات الصوتية، مثل الممثل الذي يؤدي دوره بكل تقمص للشحصية، فقد شاهدناه في هذه الأغنية، قد شخّص للمستمع بصوته فقط، دور العاشق الممتلئة وجدانياته بالشاعرية. : قالت لي بكره وادحنا بكره لو صدقت تبقى موش بايعاني لو خلفت موش ح أقول نسياني ح أقول بكره هو اللي ما جاشي وح استنى ليه ما استناشي لحد بكره؟ وهذه هي فلسفة العاشق الفنّان الذي يخادع نفسه، ولا يريد أنْ يخسر الرِهان على من أحبّ لئلا يكون للكراهية في قلبه موضعٌ، حال انتفاء إتيانها في الموعد. إنه الملك يا سادة.