ونحن اذ نمتنع عن الدخول في لعبة التصنيف هذه، نؤكد أنّ فريد الأطرش هو لا شك صاحب مدرسة شديدة الخصوصية والتفرد، لا تشبه احداً سواه. مدرسة تلحينية انطلقت من دوائر ثلاث: دائرة محلية شهدت أولى خطواته الفنية في بيئته الشامية، ودائرة اقليمية عربية شرقية عرفت نضجه الفني وتألقه في بيئته القاهرية واستلهمت فن الرواد الأوائل ونسجت على منوالهم، ثم دائرة عالمية استلهمت موسيقى الشعوب الأخرى وايقاعاتها كالسامبا والرومبا والتانغو، وكذلك بعض ملامح الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية، لا على سبيل المحاكاة الفجة بل من خلال اخضاعها لروح الشرق وهضمها في بوتقته باقتدار. وذلك نظراً لقدراته الفنية الفائقة وموهبته الحقيقية التي استطاعت أن تبتلع هذه المؤثرات والروافد وتصهرها في موقد خيالها الرحب لتخرج علينا بأسلوب تلحيني مميز ذي ملامح محددة وبصمات خاصة لا يخطئها المتذوق للموسيقى. فريد الأطرش اذاً هو النموذج الأمثل لهذا الانصهار بين الثقافات الموسيقية المتعددة والمتنوعة وأفضل من سكبها في نهر الموسيقى العربية حتى انسابت في مجراه كأحد مكوناته من دون أن تذوب فيه بل نشعر بوجودها ونلمح طيفها كظلال تلوح من بعيد. فريد الأطرش يمثل في ثقافتنا الموسيقية حالة فنية أضافت وأثرت واستطاعت أن تخترق حواجز المحلية للانطلاق الى العالمية من خلال مجموعة من مقطوعاته الرائعة التي لفتت انتباه الموسيقيين الغربيين. من هذه المقطوعات قصيدة «يا زهرة في خيالي» التي سحرت الألباب وجابت شهرتها الآفاق وتردد صداها في أنحاء العالم وعزفتها الأوركسترات العالمية في أكثر من مكان. ما لم يحدث لأحد من معاصريه من الكبار أو الذين سبقوه. وكان من أوائل الملحنين،، الذين ألفوا المقطوعات الموسيقية المحضة التي ذاعت شهرتها عربياً وعالمياً، واهتموا بالمقدمات الموسيقية التي عزفتها الأوركسترا بكامل عديدها وآلاتها، كما اهتم بتوظيف الكورال بشكل بديع في اعماله واللجوء الى تقنية البوليفوني الغربية وتطويعها للموسيقى الشرقية باسلوب خلّاب، كما في ختام قصيدته الشهيرة «عدت يا يوم مولدي». أن هذا التكريم الغربي عزز مكانة فريد الأطرش محلياً وعالمياً، وربما يكون قد أنصفه قليلاً ورفع عنه ظلماً أصابه في وطنه على المستوى النقدي والتأريخي. كلاسيكيات الملحن المجدد قدم فريد الاطرش الألحان الكلاسيكية الشرقية الطويلة التي طبعت الحقبة الموسيقية العربية الثرية جداً في الأربعينيات والخمسينيات والنصف الاول من الستينيات كـ«الربيع»، و«أول همسة»، و«حكاية غرامي»، و«نجوم الليل»، و«حبيب العمر»، و«عدت يا يوم مولدي»، و«بقى عايز تنساني» (غنتها ايضاً سعاد محمد)، و«ختم الصبر» التي رشحها الناقد سعد آغا القلعة ضمن اهم ١٠٠ أغنية عربية. هذه الأعمال الشامخة نالت جماهيرية طاغية واستحقت تقديراً عند بعض النقاد المتحمسين لفنه، اذ قدّم الجديد من خلالها كما يؤكد رئيس اللجنة الموسيقية العليا الاستاذ أحمد شفيق أبو عوف الذي رأى أن فريد الأطرش قد أقدم على «المزج الغريب والبديع بين إيقاع الفالس والمصمودي في اغنية الربيع في سابقة فنية لم يسبقه اليها احد». هو أول من قدم الأوبريت المكتملة العناصر في الأعمال السينمائية، وقد اعتبر النقاد أوبريت «انتصار الشباب» الشكل الأمثل لمفهوم الأوبريت في تاريخ الموسيقى العربية المعاصرة . كذلك فإن الأطرش كان اول من صاغ المقدمات الموسيقية الشامخة في أعماله الكلاسيكية كما في أغنية «بنادي عليك» التي طوّع فيها الموسيقى الشرقية لأداء الأوركسترا السمفوني. في هذا العمل الكبير نجح الموسيقي في ابراز معنى المناداة ـــــ المناجاة الى حد بعيد من خلال الغناء الفالت المسيطر بشكل عام على الكوبليهات التي سرت نهاياتها على ايقاع الفالس قبل أن تسلّم زمامها إلى تلك الآهات الندائية التي تفصل بينها، لتكثف المعنى الذي على أساسه بنى الشاعر أنشودته وتلقي بظلالها الأخّاذة على العمل من أوله الى آخره. يدل هذا العمل الفذ على فهم عميق لروح الموسيقى الشرقية وإمكاناتها الهائلة في اختراق وتوظيف أشكال الموسيقى الكلاسيكية الغربية في بحر مقاماتها الواسع والعميق. عمل «أطرشي» بامتياز يجبرنا على وضعه خارج التصنيف التقليدي وإن أُخذ عليه ذلك الفصل الحاد بين المقدمة والأغنية. كذلك فعل في رائعته الثانية «نجوم الليل»، فقد بدا فيها فريد الأطرش موسيقياً كلاسيكياً من طراز رفيع حلّق في ذرى الموسيقى التعبيرية للارتقاء بالشكل التقليدي للأغنية الشرقية ومنحها أبعاداً انسانية عابرة للجغرافيا وأطلق سراحها من أسر المكان والزمان لكي تلتقطها كل أذن تطرب للموسيقى ويستخفّها النغم. فغدت «نجوم الليل» كنجوم الليل يستضيء بها التراث الانساني ويناجيها كل من أظلمت نفسه واستبدّ به الشوق الى ومضة من نور. مقدمة خيالية تصويرية كأنها من عزف السماء ترويها الأوركسترا بكامل عدّتها وبهائها، حوارية موسيقية بديعة على مستويات عدة بين مجموعة الوتريات وآلات النفخ وبين الاوركسترا والبيانو وبين الآلات الغربية والآلات الشرقية الوترية والإيقاعية وبينها وبين آلة القانون، مهرجان من الألم الجماعي والتشاكي الجميل أبحر بنا الى أعالي الموسيقى، هناك، حيت تتكشف الحجب فيغدو المغلق هو الوضوح بذاته. مقدمة مهيبة بدأت بذلك التآلف البديع بين نهاوند الوتريات وكورد الآلات الهوائية أو النفخ، ثم لامست مقامات أخرى كالعجم والحجاز لتعود وترسو عند شاطئ الكورد، العمود الفقري لهذا العمل، تحكي أحوال النفس الشاكية من الظلم تستكين حيناً وتتمرد أحيانا تهدأ نيرانها مرة وتضطرم أخرى. تعبّر عن نوع من التساؤل الاستنكاري للظلم والقسوة موضوع الأغنية بدا فيها فريد الأطرش متأثراً بالكلاسيكيات الأوروبية، الاسبانية خاصة، من خلال اسلوب توظيفه الدرامي لمقام الكورد واستلهام روح الفلامنكو من خلال إحداث الاحساس بذلك الرجع البعيد للصوت الايقاعي السريع لآلة الكاستانييت الشهيرة لكن بصوت الصنوج في آلة الرق الايقاعية، في محاولة لتجنب التغريب الكلي. حتى اذا انتهى من رسم هذه اللوحة التعبيرية ترك ريشته لتستريح في حضن الحجاز، المقام الشرقي المناسب للتعبير عن الدموع واللوعة، الذي به يبدأ الغناء حيث يجول فريد بين الشهناز والصَّبا والراست والبياتي ليعود أخيراً وينهي الأغنية بمقام الكورد لكن بطعم عربي شرقي المذاق.