ماتت اسمهان التي تعتبر الملهم الاول لفن الموسيقار الخالد فريد الاطرش. فوجد نفسه يكمل المسير وحيدا وبعد عدة تجارب سينمائية كانت اقرب الى الفشل منه الى النجاح رغم القيمة الفنية للاغاني( جمال و دلال 1945 شهر العسل 1945 مقدرش 1946) ادرك فريد الاطرش انه للنجاح يجب ان يتميز و ان يقدم شيئا يعجز الاخرون عن تقديمه خاصة و ان منابعه في التلحين متنوعة و يستطيع ان يصل بالتحدي مع الاخرين الى اعلى المستويات. فلابد انه درس جيدا ما هو موجود على الساحة, هناك ام كلثوم و جيش عرمرم من كبار الملحنين ورائها و هناك عبقرية اسمها عبد الوهاب مدعومة من علية القوم فكيف سيجد لنفسه مكانا وسط هؤلاء و كيف يمكن ان يتميز.
هنا يدرك فريد بفكره العالي, و من خلال تطورات العصر الذي يعيشه, هذه المفارقة و هذا الصراع بين الموسيقى الشرقية و نظيرتها الغربية. فبعد عدة محاولات في التقريب بين الضدين من موسيقيين آخرين يدرك هذا الشاب الوسيم انه للجمع بين الموسيقى الشرقية و نظيرتها الغربية يجب البحث عن نقاط التلاقي, و هنا يحقق العجيب الذي لم يستطع احد تحقيقه هو الاعتماد على الاحساس العالي بالموسيقى. ففريد كغيره من الملحننين العرب في عصره لم يتلقى تكوينا معمقا في الموسيقى الغربية و لكنه ادرك نقط التلاقي اعتمادا على ما يحس به فحقق التناغم و حقق المعادلة الصعبة فذالك لم يجبره على التخلي عن شرقيته الصميمة ولم يسرف في التغريب مثلا في اغنية الربيع تجد هذا التناغم و التمازج الواضح والعبقري بين الايقاع المصمودي و الفالس في حبكة راقية تدل على فكر موسيقي عالي عند فريد الاطرش.
اذا المهمة هنا واضحة عليه ان ينقل الموسيقى العربية الى مرحلة العالمية بالاعتماد على المزج و الانتقال السلس العجيب بين الإيقاعات في رسالة واضحة فحواها ان الموسيقى لغة عالمية و الموسيقى العربية ممكن نقلها الى المستمع الغربي دون التخلي عن الاصالة و الشرقية, فيالها من مهمة صعبة. لكنه حقق ذالك وببراعة قل نظيرها.
سنتطرق في هذا الموضوع الى ثلاثة اعمال قدمت هذا المزج الراقي و كانت اعظم ما وصلت الية الموسيقى العربية البحتة في اطار مؤلفات فريد الاطرش الموسيقة.
المقدمة الموسيقية لحبيب العمر 1947 كانت هذه اول مقدمة موسيقية طويلة في الموسيقى العربية لكنها لم تكن كأية مقدمة, فقد حاول فريد الاطرش استعراض نبوغة الموسيقى عن طريق بناء لحني اركسترالي متكامل. جاءت هذه المقدمة على مقام ري مينور, يدخل فريد في الحركة الاولى الى ما يسمى التالف الرئيسي للمقام في حوار جميل لالة الاوبوا مع الاركسترا ليذكرنا بالاعمال السمفونية ثم انتقال سلس لايقاع رباعي وجملة موسيقية ساحرة على هذا الايقاع بعد ذالك صولو سنفوني عظيم من الة التشلو و الكونتر باص على الجملة الرئيسية للحن "حبيب قلبي ووجداني مليش غيرك حبيب تاني " و حدث ذالك دون ان يحس المتلقي بهذا الانتقال لندخل في جو رومانسي بديع, بالاشارة الى انه غالبا ما يستعمل الكمان الجهور "التشلو او الكونتر باص للدلالة على الرجل"و هنا يتدخل الكورال لترديد الجملة الموسيقية و كانه ينادي الحبيب حبيب العمر ثم على نفس الجملة يتدخل ايقاع الفالس الثلاثي تعبيرا عن الفرحة بنداء حبيب العمر في جو راقص بديع ثم بالتمازج مع صوت الكورال. حوالي اربع دقائق ساحرة عبر فيها فريد الاطرش عن فكر موسيقي عال و حقق معادلة صعبة بن الافتتاح الغربي الاركسترالي و اللحن الشرقي الجميل في تناغم واضح.
المقدمة الموسيقية للحن الخلود 1952 لاشك ان التجربة الاولى حبيب العمر كانت غنية بكل المقاييس فاستطاع بذالك تحقيق نقلة نوعية لموسيقانا العربية في إطار التقارب العجيب مع الموسيقى الغربية الذي ملك مفاتحه الموسيقار فريد الاطرش, لذالك سوف يقدم طبقا دسما من نوع اخر تجربة رائدة تعد اعظم ما وصلت اليه الموسيقى العربية البحتة في ذالك الوقت اقترب فيها فريد الاطرش من الجو السيمفوني بمقايسه العالمية ودائما وابدا مع الحفاظ على الشرقية الصميمة دون الاغراق في التغريب. تجدر الاشارة هنا الى ان المقدمة الموسيقية للحن و رغم غناها وقالبها السيمفوني لم تاتي ابدا منفصلة عن اللحن المغنى وهذا صعب التحقيق لكنه حقق ذالك و بمنتهى الاعجاز. المقام الرئيسي ايضا ري مينور يبدا فريد الاطرش بدخول سيمفوني قوي ثم حوار للآلات النحاسية والوترية منتهيا بجملة هادئة من التشيلو ليمهد للجملة الرئيسة وهي جملة النداء (الذي عبر عنه بنفس الجملة في الغناء بادائه الاهات ) هذه الجملة تؤدى بمجموعة من الالات النفخية بانفراد ثم تتلاحم في حوار مع الاركسترا و بنفس الجملة و هذا كله جاء في سبك بديع عجيب لكن الأدهى من كل ذالك هو الطابع الشرقي الذي اعطاه فريد للحن بعبقرية واضحة. وللتاكيد على الشرقة ينتقل اللحن بروعة الى الشرقية الخالصة على مقام الحجاز وفي تمهيد سريع جميل الى ايقاع يجمع في ثناياه بين الشرقية و كذالك العالمية ليربط بين ما هو شرقي و ما هو غربي في براعة قل نظيرها فقد استخدم ايقاع الفالس العالمي الشهير الذي هو ايضا ايقاع ثلاثي شرقي فحقق مطمحين الاول الحفاظ على الطابع الشرقي و الثاني الوصول الى الذروة اللحنية التي يحتاجها القالب السيمفوني وكل هذا في انسجام تام دون الخروج عن السياق.
المقدمة الموسيقية لنجوم الليل 1953 هنا يقدم فريد لحنا عالميا من الخياليات افرغ فيه احاسيسه . يبدا فريد بتحاور بين مقاميي الكرد و النهوند في جملة موسيقية عظيمة فالالات الوترية تعزف جملة على النهوند و تحاورها البقية وخاصة آلات النفخ منها على مقام الكرد في تالف بديع تعبيرا عن أحاسيس القتامة و الإحساس بالظلم في تعبيرية واضحة, و هذا من الالحان التركيبية التي لا يطرقها الا ذو فكر موسيقي راق جدا, بعد ذالك في انتقال بديع يحافظ فريد الاطرش على الحوار لكن هذه المرة بين درجتين مختلفتين في مقام الكرد الكرد نوى و الكرد دوكه في حوار بين الات النفخ و البقية ثم انتقال عجيب الى جملة موسيقية على مقام الحجاز تمهيدا لجملة اروع ما يكون على مقام الكرد المجاور للحجاز (جملة ظالم و بحبه من روحي) في تعبير رهيب عن الشكوى واستعمال القانون على درجة العجم وكل ذالك في تمازج كامل بعد ذالك انتقال رائع للايقاع وحوار بين الوتريات والقانون على مقام الحجاز وعودة الى مقام الكرد وينهي فريد بجملة البداية على مقام النهوند وهذا كله دون الخروج عن التناغم في سبك بديع. ثم جملة جميلة بالبيانو على مقام الكرد للتمهيد وتقوم الاركسترا بالرد . افراغ كبير للاحاسيس وفي بكائية واضحة متناسبة جدا مع مقام الحجاز . لكن المفاجئة الكبرى ورغم هذا التوزيع الهارموني البديع و الاستعمال الاركسترالي. اللحن كله من الفه الى يائه شرقي صميم. انها قمة العبقرية ان يوضع لحنا شرقيا بمواصفات عالمية و بهذا التناغم فتستسيغه حتى الاذن الغير معتادة على موسيقى الشرقية.
قد يسئل سائل لماذا لم يواصل فريد الاطرش في هذا المسار خاصة في الستينيات . الجواب لقد عانى فريد كثيرا من التهميش الكبير والحرب المعلنة وتحالف منافسيه ضده ووقف اغلب النقاد مع منافسيه ممى ادى الى كثرة الاحباطات, فلو كان محمد عبد الوهاب من قام بذالك لقامت الدنيا و لم تقعد من كثرة التصفيق و التهليل و التبجيل. لو كان شخص اخر مكان فريد و في هذه الحال لاعتزل الموسيقى من دون مقدمات لانه ما اقسى ان تقدم شيئا عبقريا و لا يتم الاعتراف به بل تتم محاولات معلنة لتهميشه. لكن فريد الاطرش واصل تقديم الدرر والعبقريات من دون كلل او ملل رغم ان بعض الاحباطات قد اثرت على مستوى بعض اعماله مما مكن النقاد المتحيزين من التأكيد عليها واستهدافه من خلالها مع إغفال التركيز على أعماله الأخرى ..فإذا استبعدنا تلك الأعمال التي سيطر فيها الاستعجال والعبثية اللحنية لقلنا أن أعماله الغنائية والموسيقية الأخرى كانت وحسب المحور الذي تنتمي إليه في سوية راقية قل نظيرها..ولطالما اكد على ذالك في رسائل واضحة مثلا عام 1963 وفي قمة الحصار الفني المفروض على فريد انتدب لتلحين اغاني فيلم المظ و عبده الحمولي و هي من المرات النادرة التي يسمح له بالتلحين في افلام الاخرين . و قد كان الى جانب كل من محمد عبد الوهاب كمال الطويل محمد الموجي و بليغ حمدي وعلي اسماعيل . لحن فريد اغنية روحي وروحك حبايب للفنانة وردة وارسل من خلالها رسالة قوية الى منافسيه من ملحني الفيلم, فقد استخدم في تلحين الاغنية مقاما جميلا هو مقام البيات الشوري وباعتبار النص يتحدث عن روحين حبيبين فمقام البيات الشوري يتكون من جنسي البيات و الحجاز وقمة العبقرية تكمن في كون فريد الاطرش جعل استقرار اللحن يميل فمرة يستقر على درجة استقرار جنس البيات ومرة على استقرار جنس الحجاز لكي يعبر عن الروحين ( الحبايب) ..
هذا فريد الاطرش يا سادة الذي في السبعينات وفي قمة عصر التجديد و الحركة الرومانسية و ظهور اشكال عديدة جديدة يجرؤ على تقديم قصيدة عش أنت بطريقة تلحين القرن التاسع عشر التقليدية و تلقى قبولا رهيبا عند الجماهير و تنجح بامتياز ليقول للكل انا فريد الاطرش انا الجسر الذي يربط الماضي بالحاضر و الحاضر بالمستقبل انا القنطرة التي تمر عبر الازمان ليستحق عن جدارة لقب موسيقار الازمان.