هذا الحوار أجرته مجلة "الكواكب" مع فريد الأطرش ببيته، سنة 1956م.
قد تختلف الآراء في كل شيء يتعلق بفريد الأطرش، إلا في أمرين إثنين :الأول:أنه فنان موهوب تعشقه الملايين والثاني أنه من أشد الفنانين إعتزازا بفنه واعتدادا بكرامته وعرفان بقيمته ومكانته في عالم الفن الموسيقي. كانت مجلة الكواكب على موعد مع فريد الأطرش في شهر فبراير سنة 1956م. لتظهر لعشاق فريد وللجمهور بصفة عامة ما خفي في جوانح فريد من شعور وعواطف. في الموعد إستقبل فريد صحفي المجلة السالفة الذكر في شقته الأنيقة، المنسقة بذوق فنان.. وكأن في كامل شياكته وكأنه على موعد غرام. المحاور: أنت متهم بأنك مفسد عظيم.. تحاول أن تفسد المجتمع المصري بأغانيك العاطفية فتحمل الناس بقوة فنك على ممارسة الحب، واحتراف العشق والإنقطاع للصج والوصل،. فما هو دفاعك؟. فريد الأطرش :"يا لها من تهمة جميلة!.. إنه اتهام لذيذ فيه معنى التكريم والتقدير، وأنا معترف بفضل من اتهموني بهذا الإتهام، ويشرفني أن أكون" المفسد الأعظم"للمجتمع العربي كله، إذا كان الإفساد مبعثة تحريك العواطف وإحياء الوجدان عن طريق الآذان.. وما كان لي أن أبلغ هذه المنزلة لو لم تكن ألحاني نابعة من قلبي وروحي، معبرة أصدق تعبير عما يجيش في الصدور من رقيق العواطف..وحبذا لو صححتم الوصف أو التعبير القانوني" عدلتم وصف التهمة" فأنا لست مفسدا ،بل أنا مترجم أمين أترجم ما في النفوس.. نفوس الشباب والشيب، الرجال والنساء. من عواطف الحب الذي هو أسمى العواطف. "لقد أصبت بمرض القلب لأني أذيب هذا القلب وأسيله في كل مقطع موسيقي، وإذا كان الفنان الصادق يشقى بفنه فأنا أكثر الفنانين شقاءا وإشدهم ثعبا.". المحاور:أفهم من هذا أنك مؤمن بالحب، بينما تبدو لنا في حياتك لا تكترث به على الإطلاق.. وكم من مرة رأيناك تعيش في قصة عاطفية، ثم يتبين أنها لم تكن غير سراب حب. فريد الأطرش :" كيف لا أومن بالحب وأنا الذي أعيش فيه وأكتوي بناره وأتدثر بإزاره من قمة رأسي إلى أخمص قدمي؟.. إن حياتي الخاصة ملك لي وحدي ولا أحب أن أشرك فيها أحد، ولا أن أجعلها موضع حديث على صفحات المجلات. ولكني أجمل القول بغير تفصيل فأقول، إنني من أجل هذه العاطفة النبيلة أذيب قلبي للناس كؤوسا يشربها العشاق وأشرب معهم. وأنا أضن بقلبي أن يكون ألعوبة للمطامع،مطامع العابثات وأنا حتى اليوم لم تهديني حساسيتي إلى من تحب فريدا لذاته، لا لماله ولا لشهرته ولا لخدمة يؤديها لها.. لم أجد من تحب حبا مجردا من الغرض، لهذا بخلت بقلبي أن يكون سلعة في سوق السرقات " المحاور :إذن فستعيش عزبا؟. فريد الأطرش :" الفنان مثلي ومثل عبد الوهاب، لا يحب أن يتزوج إلا بعد يؤدي رسالته، وبعد أن يعتزل الفن ليتفرغ للزواج ومتعبه ومشكلته. وها هو ذا الصديق الكبير عبد الوهاب تزوج فتعذب، ولا أحب أن أدخل في شؤونه الخاصة ولكني أحس أنه يعيش في زوابع متصلة.. لقد رأيت ما وقع فيه فاتعظت، وأحجمت، وآمنت بأن الفنان يجب أن يعطي فنه كل العناية، حتى إذا ما شبع منه وآثر أن يخلد إلى الراحة، فله أن يتزوج. وهذا ما سأفعله.. بعد خمس أو عشر سنوات سأتزوج، حيث أكون قد أديت للفن حقه من دمي وعقلي وكياني كله. ". المحاور:قيل إن هناك اتصالات تدور بينك وبين سامية جمال لوصل ما إنقطع من صداقتكم. فريد الأطرش :"مش ممكن.".
المحاور:من هو أعظم موسيقار في الشرق في نظرك؟. فريد الأطرش :"محمد عبد الوهاب، وأنا.. وأعتبر عبد الوهاب صاحب أجمل صوت في العالم العربي كله.. إن لم يكن في العالم أجمع.. لقد سمعت بعض الموسيقيين يقولون إن صوت عبد الوهاب" مش ولا بد" وهذا كلام من العيب أن يقال، فالحقائق لا تدحض بمثل هذه الكلمات الفارغة.". المحاور :وما رأيك في فنه؟. فريد الأطرش :" لو ظل عبد الوهاب يغني "القديم" أي الغناء الشرقي المحض الذي غناه" أيام زمان" لما جاراه أحد في العالم كله، لكنه آثر هذا اللون الذي يعيش عليه الآن.. أما عن نفسي فأنا أعتقد أنه ليس هناك أحد-ولا عبد الوهاب نفسه- يجاريني في لوني الذي إخترته لنفسي في الغناء والتلحين.. إن غنائي شرقي ولكنه مطعم بروح العصر، من غير تأثر بالموسيقى والألحان الغربية، إذ ليس من المستساغ أن نظل نتغنى بالطريقة وبالآلات التي كان يغني بها أجدادنا! ". المحاور :هل إقتبست في موسيقا شيئآ من الموسيقى الغربية؟. فريد الأطرش :" كانت غلطة واحدة غير مقصودة، فقد حدث أن سمعت قطعة موسيقية أوربية إستهوتني إلى حد جعلتني أحفظها وأرددها في خاطري و" أدندن" بها في خلوتي حتى علقت بذهني لطول ترديدي لها، ثم حدث أن أخذت في تلحين أغنية، وإذا بهذه القطعة تقفز من عقلي الباطن وتحتل مكانا من اللحن الذي كنت أضعه، ولم أفطن لهذا إلا بعد فوات الأوان.. بعد أن خرجت الأغنية إلى عالم الوجود وتداولتها الأسماع والألسن. وقد حصنت نفسي بعد ذلك ضد الإقتباس فلم أعد أفتح ذهني للحن غريب، وقد وضعت حتى الآن أكثر من 500 لحن أتحدى من يشاء أن يدلني على لازمة واحدة مقتبسة. وقد آمنت بأن الإقتباس جريمة في حق موسيقانا الشرقية، بل وجريمة خلقية تلتصق بالمقتبس الذي لا يذكر أن لحنه مقتبس من لحن فلان أو موسيقى فلان.وأعتقد بأن الأستاذ عبد الوهاب وقع فيما وقعنا فيه من الإقتباس ولكنه لم يستطع أن يحرر نفسه منه فانساق وترك الألحان الغربية تنساب في أغانيه وموسيقاه حتى أصبح إنتاجه "مطعما" ولو إستطاع أن يطرد هذا الغريب المتسلل لجاء بأروع ما يمكن أن يهبه الله للفنان. ". المحاور :وأم كلثوم ما رأيك فيها؟ وهل تحب أن تلحن لها؟. فريد الأطرش :" أم كلثوم معجزة لا شك في هذا، ولكن المعجزة بدأت تبعث على الملل بعد أن تكررت، لأن المحيطين بها لا يحاولون التغيير ولا التبديل لا يحاولون التجديد في ألحانهم التي يقدمونها لها ونحن في عصر لا بد من التغيير والتجديد المتواصلين.. وهذا ما كان يجب أن يفعله المحيطون بالمعحزة. وبودي لو ألحن لأم كلثوم، أنا لدي ألحانا جبارة لا يقوى على أدائها إلا صوت جبار كصوت أم كلثوم، وقدرة جبارة كقدرتها، وأنا أضطر لحبس هذه الألحان لأني لا أجد من يستطيع إبرازها في قوتها كما تستطيع أم كلثوم. ". المحاور :هل ذقت الفقر في حياتك؟. فريد الأطرش :" ذقت منه ما لم يذقه غيري.. فقد كنا-أنا والفقر-صديقين متلازمين.. جربت البطالة، وعملت كومبارس وموزع إعلانات عند "بلاتشي" وعازفا مأجورا،ومطربا في صالة وفي كل عمل من هذه الأعمال ذقت أشد التعب.. التعب الذي أتعب قلبي حتى مرض هذا القلب من طول ما عانى صاحبه.". المحاور :وهل وصلت إلى المجد الذي تنشده.. ووصلت أغانيك إلى المكانة التي أردتها لها؟. فريد الأطرش :"وصلت يا صديقي.. وأصبحت أسطوناتي بحمد الله منتشرة في العالم العربي كله. بل وفي أقطار كثيرة غير عربية.. وأقول بصراحة وصدق أن ما يوزع من أسطواناتي يفوق ما يوزع من أسطوناتي عبد الوهاب وأم كلثوم مجتمعين.. أقول هذا وأتحدى من شاء أن يثبت العكس.. وأحتكم في هذا الأمر إلى تسجيلات شركات الأسطوانات. ". (الكواكب-236-7 فبراير 1956م).
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]