في الواقع، بقيت أسمهان خلال حياتها في الظل، كما تشهد الصحافة التي رافقت خطواتها، ولم تحتلّ إلا حيزاً بسيطاً في المساحة الإعلامية، على عكس ما يُمكن تصوّره. قبل ظهور اسم أسمهان، ظهر اسم أمل الأطرش في نهاية كانون الثاني/يناير 1931، حيث تحدثت مجلة “الصباح” عن “مطربة جديدة”، وجاء في هذا الخبر القصير: “تُقيم في مصر آنسة من كرائم آنسات لبنان وسليلة من أعرق بيوتاتها في الشرف والمجد، ويكفي أنها من عائلة الأطرش المعروفة، وهي الآنسة أمل، وقد عني بتلقينها أصول فن الموسيقى والغناء الأستاذ الموسيقار الكبير داود حسني، لما آنسه فيها من مخايل الذكاء والاستعداد الموسيقي النادر وستظهر للجمهور عما قريب تحفة من التحف الفنية النادرة”. بعد أسبوع، عادت المجلة ونشرت رسالة وصلتها من شقيق “المطربة الجديدة” التي أعلنت عنها، ونصّها: “صاحب الصباح، تحيةً واحتراماً، قرأت في عدد الصباح الأخير كلمة عن ظهور مطربة جديدة اسمها الآنسة أمل الأطرش، وانها ستظهر للجمهور قريبا، والحقيقة ان الآنسة طالبة بالمدارس، ولم تتم دراستها بعد، ولا بد لها من الاتمام، ولما كانت تميل بطبعها إلى فن الموسيقى، فهي تتلقى أصوله على يد الأستاذ داود حسني، كما تتلقى غيرها من الأوانس دروساً فنية للفن فقط، ارواءً للنفس منه، واني مع احترامي لهذا الفن وتقديري لأهله، أكذّب إشاعة قرب ظهورها للجمهور كمطربة، وخصوصاً أنها تنتمي إلى أسرة لها مركزها الخاص في بلاد العرب وهذا مما لا ترتاح إليه تقاليدنا ولا يسمح به مركزنا الاجتماعي والعائلي، وتفضلوا بقبول احترامات شقيق الآنسة الأكبر فؤاد الأطرش”. ظهر اسم آمال الأطرش في “الصباح”، ثم غاب. وفي 23 حزيران/يونيو، ظهر اسم أسمهان في باب “الأغاني العصرية”، من دون أي إشارة إلى الاسم الأصلي، مع نص أغنية بعنوان “كلمة يا نور العيون”، وهي بحسب التعريف المرافق: “طقطوقة، نظم يوسف بدروس، تلحين الأستاذ محمد القصبجي، تغنّيها الآنسة أسمهان”. في 2 أكتوبر/ تشرين الأول، عادت “الصباح” إلى الحديث عن “النجمة الجديدة أسمهان”، من دون أي إشارة إلى “آمال الأطرش”، وقالت في حديثها: “لا يكاد أيّ محب للموسيقى والغناء يستمع قليلا إلى الآنسة أسمهان وهي تغرّد بصوتها العذب الحنون في أسطوانات كولومبيا حتى يقول في عجب وطرب: مدهش. ولا يلبث يكرر ليقول القارئ بدوره: مدهش. وأيضاً فإن إحدى الشركات الأخرى رغبت التعاقد معها، فأخبرتها شركة كولومبيا بما ينصّ عليه العقد، وهو دفع أي شركة تحاول التعاقد معها غرامة مالية كبيرة لشركة كولومبيا. ولقد خُصّص لها كبار الملحّنين كالأساتذة محمد القصبجي وداود حسني وزكريا أحمد وفريد غصن، فجاءت قطعها رائعة فذة تطرب لما تحسه فيها من روح آسية خلقت لتشجي النفوس. ويسحرك الصوت العذب الرائق فتستمع حقاً بنشوة الغناء، فكم من ضجة وأثر سوف تحدثهما في الوسط الفني، من غير حاجة إلى الدعاية والاعلان، فستكون اسطواناتها خير دعاية وأكبر اعلان لها”. في عددها التالي، نشرت المجلة إعلاناً احتلّ صفحة كاملة من صفحاتها، مع نص يقول: “تدعوكم شركة كولومبيا لسماع النجمة الجديدة الآنسة أسمهان لتحكموا بأنفسكم انكم تستمعون إلى أعذب صوت حنون”. هكذا أطلقت شركة كولومبيا أسمهان في عالم الغناء، وقدّمتها في قصيدة “أين الليالي” وطقطوقة “يا نار فؤادي”، والقصيدة من نظم اسماعيل أفندي صبري وتلحين محمد القصبجي، أما الطقطوقة، فهي من شعر يوسف بدروس وتلحين فريد غصن. ونقع على إعلان آخر يقول “النجمة الجديدة بالقطر المصري أسمهان، وهي المطربة الجديدة التي لم تبلغ من العمر أكثر من 14 سنة، وقد حازت من الفن ما لم تحزه كبيرات المطربات”. يقول التابعي ان أسمهان ولدت في 24 تشرين الثاني/نوفمبر 1912، ويتبنى فكتور سحاب هذا التاريخ في كتابه “السبعة الكبار” ليؤكد أن أسمهان سجلت أغانيها الأولى وهي في العشرين من عمرها. في المقابل يقول إعلان شركة كولومبيا بأن المطربة “لم تبلغ من العمر أكثر من 14 سنة”، واتضح أنها سجلت “يا نار فؤادي” في 1931، وليس في 1937 كما ذكر فكتور سحاب في كتابه. بعد “كلمة يا نور العيون”، “اين الليالي” و"يا نار فؤادي"، سجّلت أسمهان “في يوم ما شوفِك راضية عني” و"كنت الأماني"، من شعر يوسف بدروس وتلحين القصبجي. و"عاهدني قلبي"، نظم محمود إسماعيل، وتلحين زكريا أحمد. دخلت أسمهان عالم الفن من الباب الكبير في العام 1931، ولفتت الأنظار إليها بسرعة. نقلت مجلة “الكواكب” خبرا يقول بأن إحدى الشركات السينمائية تتفاوض مع أسمهان “للقيام في دور غنائي” أمام بدر لاما في فيلم بعنوان “خفايا القاهرة”، والأكيد أن هذا المشروع لم يتحقّق. توقّفت انطلاقة أسمهان، ولا نجد في الصحافة الفنية التي رصدت هذه الانطلاقة أيّ تفسير لذلك. والأكيد أن آمال الأطرش احتجبت فترة زمنية تخلّت فيها عن الفن، وعاشت كأميرة “تنتمي إلى أسرة لها مركزها الخاص في بلاد العرب”، بحسب تعبير شقيها الأكبر فؤاد. بعد فترة يصعب تحديد مدّتها، عادت آمال الأطرش إلى القاهرة، وتقمّصت دور أسمهان من جديد. تكررت هذه التجربة في السنوات الأخيرة من عمر أسمهان القصير، كما تشهد الصحافة التي رافقت هذه المسيرة الصاخبة. ويتّضح عند مراجعة هذه الصحافة ان الكثير من الروايات التي سادت بعد مرور سنوات عديدة على رحيل أسمهان تفتقر إلى أي سند متين.