ما دُمت بصدد الاهتمام بما جاد به الفنان الكبير ' فريد الأطرش ' من فنون غنائية ، و ما أثر به مكتبتنا و موروثنا العربي الغنائي من روائع و بدائع ، ارتأيت في هذا المقال ، أنْ أبرز و ألفت عناية القارئ و المستمع معاً ، إلى دوره الكبير في تطوير القصيدة العربية المغناة ، إذ أنه قدّم ما في وسعه و فنه ، لهذا النمط الغنائي الرصين ، فقد لحّن في بدايته عام 1937 ميلادياً ، قصيدة تحت عنوان : ( ختم الصبر ) كانت دليلاً على تفتق عقلية جديدة في تلحين هذا الضرب الغنائي ، فكانت في حين ظهورها ، طفرة في هذا المجال الغنائي الصعب ، ما جعل المستمع ، الذي يتمتع بذائقة موسيقية فائقة ، يراهن عليه في تطوير فنّ القصيدة إلى جانب الموسيقار ' رياض السنباطي ' و موسيقار الأجيال ' محمد عبد الوهاب ' و لكن بنكهة أخرى ، فقد كان لحن هذه القصيدة مغايراً ، لما قدّمه الأخيران من ألحان تنضوي تحت لواء القصيدة الغنائية الحديثة آنذاك ، فشكّل الزاوية الثالثة و الضلع الثالث من ثالوث أو مثلث التطوير بجدارة ، حتى أنّ الموسيقار ' رياض السنباطي ' أشاد بتلك القصيدة و نعتها بما ذكرته لكم ، من دون أدنى إكراه ، و هو من هو في هذا المجال .
و بعد هذه القصيدة اتبعها بدُرر ٍمن القصائد المشهورة له ، التي انتقل بها إلى مراحل متطورة جداً من الحسن في اللحن و الغناء و الأداء ، أمثال : ( عش أنت ) و ( أضنيتني بالهجر ) للشاعر ' بشارة الخوري ' و قصيدة ( لا و عينيك ِ ) التي نظمها له الشاعر و الزجّال الكبير ' كامل الشناوي ' و رائعة ( يا زهرة في خيالي ) هذه القصيدة التي وصلت إلى العالمية ، حيث غنّاها أكثر من مغنٍّ عالمي باللغة العربية مجارياً الفنان الراحل ، في صوته و طريقة أدائه ، حرفياً و شكلياً ، فمن الجميل في الفكرة و من جميله علينا ، أنه جعل أولئك الفنانين ، الذين ينتمون إلى أمم أخرى ، يتغنون بلغتنا السامية في مفرداتها و معانيها .
و من مظاهر التطوير في قصائده هاته ، أنه عرف بموهبة الفنان الحقيقي كيف يصور للمتلقي ، الحدوثة التي تنهض عليها مفردات القصيدة ، من خلال الألحان و ما صاغه فيها من جمل موسيقية عظيمة تعاملت بإتقان ، مع كل حرف على أنه كلمة و لم تتجاهله ، لعلمه المسبق ، بأنّ الحرف في اللغة العربية ، هو من أقسام الكلمة ، ففي قصيدته : ( لا و عينيكِ ) جعل لحرف ( لا ) متسعاً من الوقت و هو ينطقه مترنماً في مطلع القصيدة ، ثم يرددها و هو على مشارف الانتهاء من القصيدة بشكل مُصوَّر ، إذ أنه ردّدها أكثر من مرة ، و كان في كل ترديدة ، يرافقه صوت ( صول ) لآلات الكمان المحتشدة فوق أكتف العازفين وراءه ، حتى لكأنه يشير إليك بسبابته ذات اليمين و ذات اليسار ، في إشارة موحية منه بالنفي ، كما يفعل الواحد منا عندما لا يكون راغباً في الكلام ، إذا أراد نفي أيِّ أمر كان ، بعد أنْ فرش و مهّد بآلته الموسيقية ( عوده ) تقسيماً أعده من أروع ما استمعت إليه من عزف على هذه الآلة الجميلة ، التي كان لها في هذه القصيدة سحراً شرقياً باهراً ، يأخذ بتلابيب العقل و الأذن و العين ، إلى حدّ الجنون ، خصوصاً عندما يلتحم صوت أوتارها مع الإيقاع و آلتي ( القانون ) و ( الكونترباص ) تحديداً عندما يترنم بالبيت الذي يقول فيه على لسان الشاعر : و خيالي الذي سما بك يوماً .. يا له اليوم من خيال كسيح
أرجع بكم تواً ، إلى مطلع القصيدة لاستكشاف مظاهر التطوير و مكامن الجمال في هذه الرائعة ، فهو يبدأ مطلعه بلهجة عربية مُفخّمة ، خاصة حينما ينشد بهذه الكلمات من مبتدئها :
لا و عينيك ِ يا حبيبة روحي .. لم أعد فيك هائماً فاستريحي
سكنت ثورتي فصار سواء .. أن تليني أو تجنحي للجموح ِ
فهو عند نطقه للفظة ( ثورتي ) التي سبقها فعل السكون ، تتصاعد الموسيقا المصاحبة في ارتفاع مذهل مع صوته الذي يأسر كلمة ( الجموح ) لبرهة من الزمن ، بيّن به مقدرته الصوتية ، كل ذلك ، لأنه يعلم ما لهذه اللفظة ( ثورتي ) من ثقل ٍ و رهبة في قرارة من لم يصبه وقرٌُ في مسامعه ، و كذلك من معنى يحمل في طياته ، عظمة الشيء ، الذي يريد أنْ يعبّر عنه ، لذلك تجاهل فعل السكون ، الذي هو في الأصل فعلٌ غير مُفعـَّـل ، فالسكون فالحقيقة يعني انعدام الفعل ، ربما لأنه ابتغى أنْ يوضح كيف أنّ ثورته الأولى قد خمدت بفعل ما لقاه من حبيبته من فتور ، لذا غلّب الثورة على السكون ، فهو بذلك ، يود أنْ يشعر مستمعه بمصابه ، و ذلك ما ينجح في التعبير عنه مرة أخرى ، عند ذكره لكلمة ( الريح ) في صيغة المضاف و المضاف إليه ( مهب الريح ) في البيت التالي له بالتحديد ، فهو بعد شدوه لهذه الكلمة ، قفّاها بـ ( صول ) موسيقي بآلات الكمان ، ترجّم هذه اللفظة في شكل صوت الريح - لا ( الرياح ) - التي عادة ما تحدثه الزوابع العاتية ، فثمة فرق كبير بين هاتين اللفظتين لمن يدرك ذلك ، فحتى في القرآن الكريم ، ما جاءت كلمة ( ريح ) إلا و قد لحقت بها كلمة ( سوء ) فهي مؤذِنة لغوياً بالسوء و خراب العمران ، بعكس لفظة ( الرياح ) التي عادة ما يجيء وراءها الرخاء و الخير ، و هذا ما يعكس للقارئ و المستمع صحة ما أوردته في بدء هذه المقالة ، من حيث معرفة الجيل الذي ينتسب إليه هذا الموسيقار الكبير ، بأحكام النطق و معرفة مفردات اللغة العربية ، نتيجة ًلدراستهم الأولى في المدارس القرآنية ، و لمطالعتهم المستمرة للشعر العربي في العصر الحديث .
أما في تتمة هذه القصيدة ، نجده يصوّر لنا جميعاً ، مشهد خطابه لمحبوبته في وقار و حِدّة ، الذي يفرض عليه أنْ ينشده بصوته المفخّم ، و هوّ يذكرها بمدى إخلاصه و مهدداً إياها بأسلوب المحبّ المخلص .
كل هذه المعاني تستمعون إليها في هذه القصيدة الرائعة ، في وقت لا يتعدى الست دقائق و الثانية الواحدة من الدقيقة السابعة ، فأنا أنصحكم بالإنصات إليها :
قصيدة : لا و عينيكِ
*****
نظم الشاعر : كامل الشناوي
لحن و أداء موسيقار الأزمان : فريد الأطرش
*:*:*:*:*
لا و عينيك ِ يا حبيبة روحي .. لم أعُد فيك هائِماً فاستريحي
سكنت ثورتي فصار سواء .. أنْ تليني أو تجنحي للجموح
و اهتدت حيرتي فسيّان عندي .. أنْ تبوحي بالحبِّ أو لا تبوحي
و خيالي الذي سما بك يوماً .. يا له اليوم من خيال ٍ كسيح ٍ
و الفؤاد الذي سكنتِ الحنايا .. منه أودعته مهب الريح ِ
لا و عينيكِ ما سلوتك عمري .. فاستريحي و حاذري أنْ تُريحي