امير النغم العربي{الفصل الثاني}

اقتباس :: [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
أمير النغم العربي فريد الاطرش
هو الغائب الحاضر دوما في قلوب محبيه
لحنا خالدا في ذاكرة الملايين وبرغم رحيله منذ اعوام طويلة
لازال صوته الشجي يطربني ويبكيني
ومن هنا ارجو لكم رحلة جميلة
و قراءة ممتعة مع هذه الفصول
الفصل الثاني - فريد كوسة
فريد الذي في السابعة قال لفؤاد الذي أكمل دستة أعوام: _ فؤاد ماذا حدث ... لماذا نسكن في هاتين الحجرتين الضيقتين .. بالله عليك قل لي متى يجئ أبونا ويحمل لنا الهدايا والحلوى ومفتاح قصرنا في بيروت ؟ فيردعه فؤاد : _ اخفض صوتك يا فريد ... إن أمنا لا تكف عن البكاء منذ جاءت ، إنها اشترت بأكثر ما معها من نقود هذه الحشيات التي ترى ، والمقاعد التي تتساند على الحائط ، إنها تطهو طعامنا بنفسها ، وماء الغسيل يقرح أصابع العز في يديها ... لا تنخزها بهذا الكلام ! وفريد بدأ يعي ما حوله ! عرف كل حقائق حياته الجديدة رغم هذا كله ، لأن أمه أكثرت من الغناء له بصوت فيه دموع ، وكان كل صبح يطلع على فريد يضيف إلى نسيج الحقيقة التي بدأت تتضح خيطاً جديداً ... فيزيده يقيناً من أن الأسرة صارت إلى الفقر لا محالة ، وإلى أن العز القديـم لم يعد غير ذكريات من حقه أن يباهى بها صبية الحارة ، ولكن ليس له أن يعلق عليها المنى ! .

وكانت كمية اللحم التي تحملها الأم إلى البيت تتناقص يوماً بعد يوم ، وتشي بأن الإفلاس وشيك ! والجودة من الموجود ، ولا تستطيع الأم إلا أن تعدل بين الثلاثة في أنصبة اللحم ! وفريد الذي يحب المداعبة يحتفظ بنصيبه حتى ينتهي فؤاد وأسمهان من التهام أنصبتهما ، فيبـرز ما معه وهو يحرك لسانه في الهواء يغيظ الاثنين ، وأسمهان لا تستطيع أن تكظم غيظها ، فتدفع قطتها إلى قطعة اللحم فتختطفها القطة وتجري بها إلى ركن الحجرة ، ويقفز كلبها الصغير فيخطف قطعة اللحم من فم القطة بعد معركة سريعة بين قرقعة ضحكات أسمهان مع فؤاد ... أما فريد فيستبد به الغضب ... فيثب على الكلب وثباً ، ويلاحقه بين الحجرات ، ولا يتركه يهنأ بقطعة اللحم ... ينتزعها من فمه ويجري إلى صنبور الماء فيغسلها ، ويعود بها وهو يمضغها في تلذذ ... ويتوقف لحظة ليخرج لسانه لفؤاد وأسمهان ... يغيظهما ! والأم التي تضحك لكل هذا يدمي قلبها ما ترى ، والحجرتان اللتان صارتا كل دنيا القافلة الشاردة رطبتان ، نشع الماء يرتفع إلى منتصفهما ، وسقفهما ينـز مع كل زيادة في الماء يستهلكها الجيران .. وقلة الغذاء لم تكن عادة الصغار المنعمين ... من كل هذا سقط فريد مريضاً .. كان يسعل سعالاً يقع نياط قلب أمه ، ويسلم فؤاداً وأسمهان للأرق ، وليس في حقيبة الأم أجر طبيب ، وقد التف حوله نسوة باب البحر وأعطينها وصفة جربنها في عشرات المرضى فكانت ترياقاً لكل سعال ! كانت الأم تسهر الليل على مصباح الغاز تصنع المناديل ذات القوية لتبيعها لبنات الحي وتكفي مصاريف البيت بعد أن نفذ كل الرصيد ... وأولادها أمامها يتغطون بغطاء واحد ... وفريد في طرف الفراش حتى لا تسري العدوى منه إلى الاثنين معاً ، وفي الطرف الثاني أسمهان ، وهي كثيرة الحركة وكثيراً ما تجذب الغطاء إليها فيتعرى فريد ... وتقوم الأم فتعدل وضع الغطاء على الثلاثة ، وتعطي كل واحد منهم نصيبه الحق . وتسمع في صدر فريد حشرجة أليمة تنتهي بنوبة سعال شديدة ، فتحضر صحيفة وتضعها على صدره تحت ملابسه الداخلية ، فتلك هي وصفة الجيران التي لا تخيب ! ويتماثل الصغير للشفاء بفعل الصحف ... لا ما أكثر ما أسدت الصحف لفريد من أفضال ! *** لم يكن الذي يشغل بال عاليه بنت المنذر أن تدبر قوتاً لأولادها وينتهي الأمر ، كانت تنظر إلى الغد وترسم له بعقل الأم وقلبها مستقبلاً فيه ، وهي المتعلمة فكيف تفكر في خطة للغد لا يكون العلم عمادها ؟ ولكن من أين لها بمصروفات المدارس ، وإذا استطاعت من كد الإبرة أن توفر لهم مصروفات عام ، فماذا تفعل في العام الذي يليه ، وما تفعل حين يبلغون مبلغ الشباب وتزداد مطالبهم وتتعقد ! على أنها اهتدت إلى مدرسة تقبل أولاد الفقراء بالمجان ، وترددت قبل أن تطرق باب المدرسة لأن المدرسة فرنسية ، فهل يمكن أن تقبل مدرسة فرنسية أولاد الأطرش الذي يحارب الفرنسيين في جبل الدروز بغير هوادة ؟ وإذا كان هؤلاء هم أولاد الأطرش فهل يشملهم الإعفاء من المصروفات لعلة الفقر ؟ قررت الأم قرارها وذهبت بأولادها إلى المدرسة ، وقالت لمدير المدرسة أنها تعبر بحر الحياة من غير عائل ، فهل يرق قلبه ويفتح باب المدرسة لصغارها ، والرجل يسألها : _ أولاد من هم ؟ _ أولاد كوسة ؟ فأفلتت منه ضحكة رغماً عنه ، ثم أحس أن الضحكة وخزت الأم المسكينة ... وكأنما أراد أن يعتذر لها عما بدر منه فقبل أولادها ! وهكذا صار فريد كوسة تلميذاً في مدرسة الخرنفش ! ولم تكن فترة الدراسة بهيجة ولا ممتعة ، فقد كان التلاميذ يلتفون حول كوسة ، بالمظاهرات الضاحكة ، وفؤاد يدافع عن فريد ،ولكن التلاميذ جمهرة والكثرة تغلب الشجاعة ، ويعود إلى الأم باكياً ... فتطيب خاطره حين تمسك له العود فتغني ، أو تدعوه لجلسة الخميس حين كانت تزورها النساء السوريات فيتبادلن أخبارهن القاهرية ، وينصرفن إلى الغناء بجوقة واسطة العقد فيها عاليه ! وفي المدرسة كان محرماً على فريد أن يحضر دروس الدين المسيحي ، كان ينصرف إلى دروس الدين الإسلامي ، ولكنه كان شديد الفضول لمعرفة ما يدور في القاعة التي لا يدخلها ... فإذا سمع التلاميذ يرتلون انتظرهم واحداً بعد الآخر ، وحفظ معهم ما يحفظون ، ومرة سمعه القس الذي يلقن التلاميذ أصول الدين المسيحي وفنون الترتيل ، فضمه إلى الفصل ! وسرعان ما لعلع صوت فريد ، وصار رئيساً لكل الذين ينشدون تحت قبة الكنيسة ... ويأخذه القس إلى حجرته ، ويقول له إن التراتيل صلاة منغمة ، فلا بد أن يتبدى في الصوت خشوع الصلاة ، وقصة السيد المسيح على الأرض مأساة ، فلا بد أن يشيع في الصوت الحزن مع الخشوع ... بلل بالدموع الخفية صوتك ، فهذا أقرب الأصوات إلى القلب الذي تريد أن تملأه بمعاني كلماتك .. وهو أقرب الأصوات إلى باب السماء ! ولم يكن فريد في حاجة إلى كل تلك النصائح ! فإن عنده في البيت القدوة في الغناء الحزين ... ولهذا خطا الصغير إلى رضا كل من في المدرسة على طبقات صوته . ويعود خفيف الظل الصغير إلى البيت فتسأله الأم : _ كيف صليت اليوم يا فريد ؟ .. فيجيبها وهو جاد : _ المدارس الفرنسية شديدة التعصب لفرنسا يا أماه .. بدأنا الصلاة بالدعاء لها ونصرتها في حربها على الدروز ... وقد حركت شفتي دون أن أردد الدعاء ، هل أدعو لفرنسا بالنصر على أبي ؟ فتضحك الأم ... ويطمئن فريد إلى ضحكتها فيضحك .. ويعود فريد يقول لها : _ ولكن التلاميذ يضايقونني .. إنهم يتندرون بحكاية كوسة ... وقد كدت أصرخ فيهم أن كوسة ليس اسمنا واسمنا الأطرش ، عمنا هو الذي تنشر الصحف صورته مع أمجاده . فتدق الأم صدرها في فزع وتصيح : _ إياك أن تفعل هذا ...وإلا فسيطردونك من المدرسة إلى الأبد ! *** ويسأل الصغير نفسه : ولماذا هذا الضنى كله ؟ لماذا أعيش تحت اسم غير اسمي ؟ ولماذا ترتاع أمي لمجرد أنني فكرت في أن أعلن على الملأ اسمي الحقيقي ، وأرتاح من سخرية زملائي الذي يعيـرونني بكوسة ويسألونني عن صلة القرى بيني وبين الباذنجان والملوخية ؟ بل لماذا نعيش في هاتين الحجرتين بعد أن كنا نعيش في قصر ؟ وأين أنت يا أبي ، ولماذا لا تجيء إلينا ويمشي في ركابك عزنا القديم ، وآخذك معي إلى المدرسة ، فأباهي بك كل الذين يباهون بآبائهم ؟ وأين سيارة أمي التي كانت تقودها في بيروت ، وهل يليق بأمي المسكينة أن تستبدل بعجلة القيادة طشت الغسيل أو إبرة تصنع بها المناديل ؟ ولماذا يعيش شقيقي فؤاد في انكسار .. ولا تتدلل شقيقتي أسمهان مثلما تتدلل سائر الصغيرات ؟ وهل سنعيش في هذه الأحزان بلا حدود .. أم أنك ستجيء يا أبي .. يا أبي .. . يا أبي ! .. ويختلس فريد عوداً كانت أمه تغني عليه ... ويجلس يصف هذه الخواطر على أوتاره الحزينة ! إنها تصدر أنيناً يرادف الدموع التي في عينيه وسيان عنده أن يبكي وأن يدندن على العود ... فإذا تركه بعد ساعة من صحبة فيها مشاركة وجدانية شاملة أحس أنه ألقى ثقلاً من أثقال الحزن عن صدره ... وتضبطه أمه يدندن على العود ... وفي قرارة نفسها تطرب لما تبدعه على السليقة والفطرة أنامل صغيرها ، ولكنها ، كأم ، تصيح به : _ تترك دروسك إلى العود ... يا خيبة أملي فيكم يا أولاد فهد ... يا خسارة شقاي عليكم وكد الإبرة وسهر الليالي ! فينسحب فريد إلى فراشه ، ويندس فيه مع دموعه ! *** وقع المحظور دون تدبير ، فعلمت إدارة المدرسة أن فريد ابن الأطرش ، فقد كان يعرف الأسرة متري هواويني السوري الأصل ، وكان يعجب أشد الإعجاب بصوت الأم ثم تحولت حماسته إلى الإعجاب بفريد حين سمعه يغني ... حتى أن أغرى أمه كي تطلقه إلى ميدان الغناء وهو في الثانية عشرة ! ومرة ذهب هواويني إلى مدرسة الخرنفش ليشاهد بروفة لأحد احتفالاتها فرأى فريداً يغني .. وهمس في أذن أحد أساتذة المدرسة : _ هل يعجبك هذا الصغير ؟ وقبل أن يتلقى من هواويني جواباً استطرد قائلاً : _ إن اسمه فريد كوسه فسأله هواويني والدهشة في عينيه : _ فريد كوسه ؟ ثم ضحك وقال : _ هذا ابن مجد ... إن اسمه فريد الأطرش ... ألم تسمع عن عائلة الأطرش ؟ في اليوم التالي ... وكان فريد في إحدى الحصص دخل ذاك المدرس فصل الدراسة ونادى : _ فريد الأطرش ! ناداه وعيناه عليه ، أما فريد فارتبك ، وطارت إلى رأسه صورة أمه إذا عرفت أن المدرسة اكتشفت سر اسمه ، فتلكأ قبل أن يجيب نعم ، وطاردته نظرات المدرس ، فأحس عرقاً بارداً يغسل وجهه ، وهم بأن يقول شيئاً فتعذرت الكلمات في حلقه ونادته عينا مدرسه من جديد ، فهب واقفاً وقال بجهد : _ أفنــدم ! وبدا الانتصار في نبرة المدرس وهو يقول : _ الناظر في انتظارك ! وبعد نصف ساعة كان فريد الأطرش يحمل كل كتبه ، وكل أشجانه ، وكل دموعه ويعود إلى البيت ! غير أن الأم كانت شجاعة ! بدرت منها في أول الأمر بادرة التياع ثم قمعتها وهونت على صغيرها .. وليلة الخميس تبادلت السوريات قصة فريد وأشرق على الأم بأن تذهب به إلى المدرسة البطريركية للروم الكاثوليك .. ففيها قسم مجاني ، وليس ثمة معارك بين الروم والدروز مثلما بين الفرنسيين والدروز ولهذا فإن المدرسة لن تتردد في قبوله ! وباسم فريد الأطرش دون كوسه ، ودون تمويه ، التحق فريد بالمدرسة البطريركية ، والحدث الهام الذي تخلل هذه الأحداث الصغيرة أن معين الأسرة من المال قد نضب تماماً ، فقد ذابت كل الحلي من صدر الأم وأذنيها ويديها ... ثم لم يعد كد الإبرة يغني الأسرة أو يواجه كل حاجياتها ، وأخبار السويداء حيث يقيم الأب ويقاتل قد انقطعت ، ولم يبق أي أمل في أن يجيء الأب يوماً مع العز القديم وذكريات الترف ، فماذا تفعل الأم لكي تواجه الحياة ؟ استقر رأيها على أن تغني في روض الفرج؟ وهو قرار خطير .. جد خطير . لم يملك الصغيران فؤاد وفريد إلا أن يقابلاه بالوجوم ... أما أسمهان كانت دون السن التي تعي فيه معنى هذا القرار .. ومن جانبها التزم فؤاد وفريد بأن يذهبا مع أمهما إلى حيث تغني ، فيمكثان في الكواليس حتى يجيء دورها في الغناء ، ويرهف فريد السمع إليها وفي قلبه حسرة .. وفؤاد الذي يعرف قدر أهله أكثر مما يعرف فريد يتمزق قلبه ! غير أن حسرة فريد تتبدد أمام الطرب ... فهذا هو الفن وهو أسمى ما في الوجود ، ولا شيء عنده يعادل آهة الاستحسان يسمعها من المستمعين أو يسمعها من نفسه ، عمل شريف لا غبار عليه ، فلماذا يحزن .. أما فؤاد فلا ... رأيه غير الرأي .. ومشاعره غير المشاعر ... وكل واحد منهما يجتر خواطره مع نفسه ، فإذا فرغت الأم من الغناء عادوا إلى البيت في عربة حنطور وأيقظوا أسمهان من نومها عند الجيران ! وكان فريد ينظر إلى تلك المرحلة من عمره على أنها مرحلة استيعاب ، وكانت ذاكرته كالخزانة الكبيرة تتلقى كل نغم ، فتحتضنه وتهتـز له ، فإذا التقى بعوده فإنه يسرد كل ما سمع ويضيف إليه ، والأم من ذلك كله في فرحة ... وسمع بنبوغ فريد المرحوم أحمد زكي باشا الذي كان يلقب بشيخ العروبة وكان صديقاً لسلطان الأطرش فكتب له بطاقة وقال له : _ خذها إلى مصطفى رضا ... _ أين ؟ _ في معهد الموسيقى ؟

يتبع

شكرا استاذ وليد الف شكر على هذا الحديث الممتع

» امير النغم العربي{الفصل الثالث}
» امير النغم العربي {الفصل الرابع}
» امير النغم العربي {الفصل الخامس}
» امير النغم العربي {الفصل السادس}
» امير النغم العربي {الفصل السابع}