امير النغم العربي الفصل التاسع

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
تقدمة منى العلي
منتدى درب الياسمين
أمير النغم العربي فريد الاطرش
هو الغائب الحاضر دوما في قلوب محبيه
لحنا خالدا في ذاكرة الملايين وبرغم رحيله منذ اعوام طويلة
لازال صوته الشجي يطربني ويبكيني
ومن هنا ارجو لكم رحلة جميلة
و قراءة ممتعة مع هذه الفصول
الفصل التاسع-عقدة الأضطهاد

اقتباس :: برئ فريد من ذبحة الصدر بعد نقاهة طويلة ، واجتاز إلى الحياة قنطرة تغطيها المزالق حتى كاد يهوي إلى القبر غير مرة ، وأحس أن الحياة شعلة تتوهج وقد تطفئها نفخة ، وأدرك أن الموت قريب جداً .. وراء الباب ، وتحت الغطاء ، وفي الردهة الموصلة لحجرة النوم .. وفي القلب إذا اختارت شرايينه العناد والعصيان ! وبدأ ينظر إلى الدنيا نظرة جديدة وهو بوهيمي بطبعه يحب أن ينفق كل ما في يده لأنه لا يكترث للغيب ويثق في الغد ، ولكنه بعد أن قام من مرضه ازداد بوهيمية . الحياة قصيرة والموت لا يستأذن في الدخول ، فليعبّ من متع الحياة كل ليلة ، وليشرب كأسها بما فيه الثمالة ، انتابه ما انتاب أسمهان منذ تنبأ لها العراف بالموت في سن الشباب ! وتذكر نبوءة لصديق له طيار يدعى فؤاد مشرقي .. من عشر سنوات أمسك فؤاد مشرقي فنجان قهوة شربه فريد ليقرأ له طالعه فيه وقال له يومها وهو يضع الحزن في صوته ليناسب فراسته :

_ فريد احترس .. ستموت في حادثة !

وبعد أسبوع واحد كان فؤاد مشرقي يستقل طائرة فوق إيران فاشتعلت فيها النيران ، واحترق كل من فيها حين ارتطمت بالأرض وتحولت إلى أشلاء ! تذكر فريد النبوءة فأدركته الحسرة على فؤاد مشرقي وقال لنفسه :

_ حتماً كان مشرقي يقرأ فنجانه هو .. ترى ماذا في فنجاني أنا ؟

ثم تذكر حادثة رأى فيها الموت بعينيه ! كان مدعواً إلى الغداء في عوامة صديق له ، وارتكز على سورها المطل على النيل ، وهو يتحدث إلى محمد بخيت الموسيقي .. وفجأة طقطق السور وانهار في النيل ، واختل توازن فريد فسقط في الماء ! ولم يكن فريد يتقن العوم ! ولكن سقوطه فوق خشب السور الذي طفا جعله يتعثر على سطح الماء قبل أن يغوص إلى القاع . وفي نخوة قفز محمد بخيت إلى الماء وخرج به إلى الحياة !

ضحك فريد لهذا كله وقال لنفسه :

_ العمر قدر مكتوب ، وإذا جاء ميعاده فإنه لا يتأخر لحظة ولا يتقدم غمضة عين !

ورغم تحذير الأطباء له فإنه عاد إلى هواية الخيل ، وفي سباق الخيل انفعالات الخاسر والرابح وهي على السواء تحمل القلب ثقلاً من التوتر لا يحتمله ! ولكن فريداً إن كان قد انصرف إلى هذه التسلية الوحيدة في حياته ، فإنه أطاع أمر الأطباء بألا يعمل لأن العمل المرهق قد يقضي عليه بغير سابق إنذار ! وتلقفت الصحف فريداً بالهجوم المرير ، بعضها كان يسخر من خيله وهوايته ويقول له أنه وتر تجمد عن إرسال النغم أمام هواية الخيل المستبدة .. وبعضهم تساءل : وخيل فريد تأكل المارون جلاسيه .. أليست أحسن من الذين يتضورون جوعاً في المدينة والقرية . ذلك لأن الخيل تحب قطع السكر ، وفريد يحملها إليها ليطعمها بيديه !

وطرق باب فريد الباحثات عن الشهرة .. تجيئهن الشهرة حين يربطن اسمهن باسم فريد ، ويذعن عن صداقته لهن قصص حب من نسج الخيال ، فتأخذ الصحف كل ما يقال وتنشره أخباراً مثيرة تجتذب القارئ ولكنها تشقي فريدا ! وكان فريد يخزن الغضب في قلبه مع أن قلبه رقيق لا يحتمل ، وعاد للعمل بتؤدة وعقل لأنه دائماً يتذكر حق جمهوره عليه ، وهو لا يطيق بعداً عن العود لأن العود أوفى الأصدقاء .. أليس هو الذي يردد أنينه ، ويترجم بصدق أحاسيسه ! هل في حياته صديق يستطيع أن يفعل هذا ؟!

وأراد فريد أن يشغل نفسه بهموم الآخرين .. زار نقابة الموسيقيين فوجد المقاعد لا تليق بنقابة يرتادها صناع النغم والطرب فتبرع من جيبه بأثاث للنادي ، وجاء بالحمالين فحملوا البيانو من بيته إلى ناديه ، واختير عضواً في مجلس الإدارة فلم يجعل حدود الغوث والقروض ميزانية صندوق النقابة ، بل تعداها إلى جيبه الخاص عن أريحية وكرم ، وبلغ منصب وكيل النقابة بالانتخاب فاعتبر نفسه شقيقاً كبيراً لكل من في ضيق .. أحد المطربين تقلبت به الأيام فصار إلى الفقر حتى لم يستطع مواجهة نفقات زوجته تضع له مولوداً فتقدم بطلب قرض من النقابة ، وناقش الأعضاء الطلب واتفقوا _ عدا فريد _ على الرفض . أما فريد فقال :

_ يا ناس حرام عليكم .. وماذا يفعل الزميل وهو مفلس وزوجته توشك على الوضع ؟

ثم مد يده إلى جيبه فأخرج المبلغ الذي طلبه زميله وقال:

_ أنا أدفعه من جيبي وقولا له أن النقابة أعطته إياه !

وفي اليوم التالي كانت الانتخابات تجري للرئاسة . وقد ذهبت وفود من الموسيقيين إلى فريد في بيته وطلبت إليه أن يرشح نفسه للرئاسة ، وقال فريد أنه يستطيع أن يقوم بواجبه نحوهم في أي مكان يكون ، فأصروا وأفهموه أن البيعة إجماعية وأنهم جربوا كل الموسيقيين فلم يجدوا أعطف منه ولا أكرم !

وفي اليوم التالي ذهب فريد إلى الانتخابات .. وعاد إلى البيت بجرح كبير في قلبه الذي شبع جراحاً ! فقد قاد الحملة عليه المطرب الذي تبرع له قبل يوم واحد بنفقات الوضع لزوجته !

واستولت على فريد عقدة تجمعت له عنده الأسباب والشواهد .. عقدة أنه مضطهد !

إن الذين يرتادون حلبة السباق يحصون بالألوف ، والذين يطعمون خيلهم قطع السكر يحصون بالعشرات ، فلماذا تتوقف الأقلام عنده وحده لتصف كل ما يفعله بأنه نزوات سفيه ، ولتطالب بالحجر عليه؟ والذين يحبون ويسعدون في الحب ويشقون يعيشون في كل أركان الأرض ، في القصور والأكواخ ، في الغابة وناطحات السحاب ، ووراء الجدران أسرارهم ، وفي طيات صدورهم أخبارهم ، فلماذا هو وحده دون سائر خلق الله .. يشقى بالعلانية ، ويتعذب برأي كل من يكتب عن حبه ؟ لماذا يصورونه على أنه الظالم مع أنه المظلوم ؟ ولماذا يشدونه من بيته وسعادته أو شقائه إلى قفص الاتهام ؟ لماذا لا يرحمون قلبه إن خفق للحب أو أخفق في الحب ؟

حتى أبناء مهنته تنكروا له .. الفنانون مثله .. الذين يفترض فيهم السمو لأنهم يحترفون أشرف مهنة ، الذين يسعدون كل الناس ! استنكروا عليه السعادة وطعنوه وهو آمن لهم ، وأغمدوا في صدره سكيناً وصدره مكشوف تفاؤلاً بأنه يتلقى حبهم .. أصبحوا كبروتس !

وتذكر كيف يعامل هؤلاء الزملاء ويجلهم من نفسه .. إنه إن دعي إلى حفلة فلا بد أن يسبقوه ويتصدروا المائدة الرئيسية ، وهو الذي طور أجورهم إلى أعلى رغم أنه كان يعمل للإذاعة بالمجان ، فمنذ عهد مدحت عاصم رفض أجر الإذاعة الذي لا يتفق مع مكانته في الغناء واستحكم الخلاف حتى اختار أن يغني بلا مقابل ! وجاءت الثورة فاستدعاه المرحوم صلاح سالم وطيب خاطره وقال له أنه مظلوم وعقد معه صلحاً مع الإذاعة ليتساوى في الأجر مع أكبر المطربين والملحنين . ويومها أغدق على زملائه من كرمه بإسراف .. كل هذا لا يصونونه له . لم يعد في الدنيا خير .. ولم يبق في الناس وفاء !

هذا هو الذي استقر في ضمير فريد الأطرش ،وهذه هي العقدة التي تشعبت في نفسه فجعلته يضيق ذرعاً بكل نقد حتى وإن كان منصفاً ، ذلك لأنه لم يتعود غير الكلمة المغرضة أو التصرف المنطوي على الجحود أو الظلم بغير مبرر !

***

تفاعلت كل تلك الأحاسيس في صدر فريد الأطرش ، وكانت النتيجة الطبيعية ذبحة صدرية ثالثة ، ولم تكن تلك الذبحة في مثل عنف الذبحة الثانية ، ولكنها تفوقت في شدتها على الذبحة الأولى ، أما الأطباء فيتلقفون نبأ تكرار الذبحة على أنه نذير سوء مهما تراوحت درجتها بين الخطورة والضعف !

والتف حول فراشه أطباؤه التقليديون _ من كثرة ما عالجوه _ وهم : محمد ابراهيم ، وعمر شوقي ، ورضوان قناوي ، وقالوا له عبارتهم المشهورة : لا تتحرك .. فلما اجتاز مرحلة الخطر التي تصاحبه الساعات الأولى ، عرف أنه سيرقد في الفراش ستة أسابيع دون حراك ، وارتاع للخبر ، وجاءه الدكتور عمر شوقي .. فسأله فريد بصوت واهن :

_ ماذا يحدث يا دكتور إن خرجت ؟

فقال الدكتور عمر شوقي :

_ تقامر بحياتك !

فقال فريد وفي عينيه تصميم :

_ أفضل أن أذهب إلى الاستديو وأنجز دوبلاج الصوت للفيلم الذي تحدد موعد عرضه . أفضل أن أموت في الاستديو ولا أموت في الفراش !

فقال له الدكتور عمر شوقي ووجهه يشي بخطورة حديثه :

_ يا فريد أنت في خطر حقيقي .. أنت في يومك الخامس ، ولا يمكن أن تتحرك قبل أن تنقضي المدة التي حددناها لك .. وليذهب الفيلم إلى الجحيم ..

فقال فريد باستنكار :

_ وميعاد العرض ؟ وأرزاق الناس التي ترتبط بالفيلم ؟ العمر واحد يا دكتور عمر ... سأذهب !

وخرج الدكتور عمر شوقي من عنده وهو يقول لفؤاد :

_ أنا أغسل يدي من دم أخيك .. وأحملك كل المسؤولية إن خرج ! ..

وفي صباح اليوم التالي قام فريد من فراشه وهو يتطوح ! وبدأ يرتدي ثيابه حتى جرى عم عبده ليوقظ فؤاداً من نومه .. وجرى فؤاد إلى فريد يحاول أن يمنعه ، ولكن فريد قال :

_ سأذهب مهما فعلت !

وطار فؤاد إلى التليفون وسأل الدكتور عمر شوقي ، فقال الأخير :

_ اتركه ولا تعانده ، فقد تعاوده النوبة إذا قاومك ، أو انفعل من مناقشتك !

ووقف فؤاد يراقبه وهو يتوقع له السقوط في كل دقيقة ، وهو يمشط شعره ، وهو يضع قدميه في بنطلونه ، وهو يرتدي حذاءه .. ورفض فريد معاونة أي مخلوق .. وقال لفؤاد محذراً :

_ لو أحضرت أي طبيب فلن أعود إلى البيت !

وفتح الباب ، فتوقع فؤاد الشر في الطريق ، توقع أن يقع على الدرج أو تؤثر السيارة على قلبه .. وقد ينتهي في الاستديو ، وذهب معه وهو يعاني من القلب والارتباك ، وقرر أن يتظاهر أمام فريد بالشجاعة ولكنه كان ينظر إلى وجه فريد خلسة فيرى خيوطاً دقيقة من العرق تنحدر منه ! وكان فريد يضع على شفتيه ابتسامة يغالط بها فؤاداً عما هو فيه . واستطاع أن يستقي الابتسامة فيصافح بها كل من لقيه في الاستديو وتمنى له الصحة ، أما فؤاد فإنه ما كاد يبلغ به حجرته هناك حتى سابق الريح إلى منـزل الدكتور عمر شوقي ، فألبسه ثيابه في ثوان وعاد به إلى الاستديو قائلاً له :

_ ستجلس في حجرة مغلقة بحيث لا يراك فريد ، معك أدواتك لعلاجه إن فاجأته النوبة وهو يعمل !

وقال عمر شوقي في ضيق :

_ فؤاد أنت تجبـرني على ما لا أطيق . لقد قلت رأيي بصراحة وهو ألا يتحرك ، فلماذا تجيء بي إلى هنا وتحملني مسؤولية ما يحدث له ؟!

قال فؤاد وهو يعتمد على حب الطبيب لفريد :

_ بل علينا أن نخفض صوتنا ونحن نتناقش ، فإنه أقسم ألا يعود إلى البيت إن أحضرت طبيباً !

وامتد العمل في الاستديو إلى ثماني ساعات كاملة ، وفؤاد وطّن نفسه على أن يسمع النبأ الأسيف وجلس يتسامر مع الطبيب وأعصابه مشدودة ، وفريد أمام أجهزة التسجيل يقول عبارات من حوار الفيلم ويضبطها على المشاهد .. يقولها كما لو كان سليماً ، يقولها وينفعل بها ويزعق ويضحك ويبكي ! ..

وعاد فريد إلى البيت والذهول يستولي على الدكتور عمر شوقي ، وفي اليوم التالي ذهب باقي الأطباء إلى فريد ليروا كيف حاله ، ولم يعرفوا ماذا فعل فريد ! وبعد أن انتهوا من الكشف عليه قالوا وأصواتهم تذيع سعادتهم :

_ هكذا الطاعة وإلا فلا .. سمعت كلامنا فتقدمت للشفاء بخطوات سريعة !

فنظر فريد إلى فؤاد وضحك ، واحتار الأطباء في سر الضحك ، فقال فريد لفؤاد :

قل لهم ماذا حدث ! ..

وحين روى فؤاد للأطباء ماذا حدث قالوا في صوت واحد :

_ لا بد لنا من أن نراجع كل معلوماتنا عن طب القلب أمام هذا القلب الذي يصنع المعجزات ! .

***

طرح فريد عن نفسه شعور الخوف من الموت حالما فرغت زجاجات الدواء مما بها وسرت في عروقه حقن الشفاء ! وعاد إلى حياته وصخبه ولكنه بدأ يغير نظرته للناس . فجراحه منهم لا تندمل .. الذين أحبهم سببوا له آلاماً وضعته على حافة الموت ، والذين سخا عليهم خذلوه وجرحوه ، لا ثقة بعد اليوم في أحد .. رجلاً أو امرأة ، فالنفس البشرية سيئة على الحالين ، وينبغي عليه أن يتحرز ويحتاط !

واعتزل فريد الفن بضعة أشهر ، وذهب إلى باريس ليستشير الأطباء فطمأنوه إلى أنه يستطيع العمل ولكن بحذر واقتصاد ، وحين عاد للعمل اختار شادية بطلة لأفلامه ! ومضت الأيام ففعلت الألفة مفعولها بين فريد وشادية .. وصارت الفنانة الحلوة الصوت والإحساس نسمة رقيقة تهب على حياته الحالكة فتبعث فيها الأمل ، وضحكة هنية تخترق قلبه الحزين فتطلق نبضه على مشاعر جافته من زمان ، وسعد بكل ما بدر منها مما يبل ريق الظامئ إلى الحب .. ثم كان يمكن أن تكون شادية قصة الحب الأخير في حياة فريد لولا أن الوشاة سعوا بالدس ، أيدهم النمامون ، وفي الوقت الذي بلغ فيه الحب ذروته ، ورددت الصحف أنشودة هذا الغرام الذي أعاد إلى فريد الفنان وحيه وإلهامه ، وأسعد قلبه الجريح ، في هذا الوقت بالذات تزوجت شادية . ..

عندها الحق حين تزوجت ، فقد كان من غير المعقول أن تربط قلبها بحب ليس لها نهاية عند المأذون ، وعنده الحق حين أحس نصلاً هائلاً يمزق قلبه ، فإنها تزوجت على غرة وتركته لغموض الموقف ينسج في صدره أحزاناً قاتمة !

واعتزل فريد الناس بعدها ! وازدادت عقدة الاضطهاد غوراً في نفسه لأن الصحف لم ترحم أحزانه فلاحقته بسيرة الخيل وقصص الحب المختلفة .. دوامة لا مخرج منها ولا مفر ! ومكث فريد عامين لا يرى جمهوره ، وكانت أضواء المدينة قد بدأت برنامجاً ناجحاً يجعل الفن غذاء شعبياً يستطيع كل الناس أن يروه ويتذوقوه ، فذهب جلال معوض إلى فريد يقول له :

_ جمهورك له حق عليك .. أخرج من عزلتك يا رجل !

وعاند فريد في أول الأمر ، ولكن جلال ظل به حتى أغراه بالاقتناع ، وليلتها استقبل الجمهور فريد كما لما يستقبل فناناً من قبل ، ودفع إلى صدره شحنة من الثقة جعلته يعيد النظر في موقفه من الجمهور الذي حجب نفسه عنه ، فنشط إلى الإنتاج وهو محبور ، باعتباره المردود ، وصارت ليلة أضواء المدينة نقطة انطلاق للرجل الذي اعتلى الصدأ أوتار عوده ، تراكمت المرارة على صفحة قلبه وأعماقه !

ولكن أحاسيس الرضى لم تحالف فريد الأطرش حلفاً إلى الأبد ، فإن المنافسة في ميادان الفن ليس أسلوبها الوتر والنغم ورنة الصوت وحدها ، لها أساليب أخرى في توزيع الأضواء هنا وهناك ، وقد لا يكون من شأن هذه الأساليب الإنصاف المطلق وإعطاء كل ذي حق حقه ، وقد راقب فريد ما يحدث في الإذاعة والصحف وهما نافذتان يطل منهما الفنان على جمهوره ، الأولى يطل منها بأغنياته ، فيتناسب تقدير الإذاعة للفن مع الخط البياني الصاعد والهابط بعدد أغنياته ، والثانية يطل منها الفنان خلال أقلام النقاد في تقييمهم لكل عمل فني ، فيقود الناقد في أحيان كثيرة رأياً عاماً بالاستحسان أو الاستهجان .. بالإيحاء وصناعة القلم يستطيع الكاتب أن يصنع هذا الرأي العام ، وقد راح فريد خلال الثلاثة أعوام الأخيرة يراقب ما تذيعه بعض برامج الإذاعة من أغانيه وما يكتبه بعض النقاد عن فنه ، فوجد في الميزانين خللاً لا تخطئه عينه !

وهو بعد كل مرة يحس فيها مرارة هذا الخلل في بعض الموازين يلتقي بجمهوره في حفلة عامة ، فيجد الجمهور على العهد به .. مشجعاً محباً مقدراً للفن في غير نفاق ولا تحيز .. ثم يقارن فريد ما يراه من جمهوره بما يراه ممن يظلمونه فتتحرك فيه عقدة الاضطهاد القديمة ، وتتأكد ، ويسأل نفسه .. ماذا فعلت لأجني
الشوك ؟ ..

ولا يجد جواباً شافياً .. ويتحمل قلبه من أثقال الحزن واليأس والهم أشياء كثيرة ..

وقرر أن يعتـزل الفن ..

ولكنه ما أن أعلن هذه النية حتى بدأ رنين التليفون في بيته ، ولم ينقطع ، وجاءته الخطابات بالمئات لتصعد إلى الآلاف من كل أنحاء الوطن العربي .. لا لا تعتزل .. أنت لست ملك نفسك بل ملكنا .. نحن بتشجيعنا وحبنا صنعنا لك اسمك .. نحن جمهورك ، نحن نملكك أكثر مما تملك نفسك . وخطاب بتوقيع عربي قال له :

سأصرعك إن اعتزلت .. شغلتك أن تصنع لنا الأنغام وتغني الحب فإذا لم تفعل فما فائدتك !

نعم ما فائدة الفنان من غير فن ؟ ما فائدة كل صاحب رسالة من غير رسالة ؟ تأمل فريد أكداس الخطابات ، وراجع عشرات المكالمات التليفونية التي يتوسل إليه أصحابها ألا يفعل ، ووقع في حيرة شديدة ! إنه لا يحب أن يتخلى عن فنه ، ولا يحب أن يتخلى عن جمهوره .. وهو طيب القلب في معركة منافسة أسلحتها الذكاء الخارق والتكتيك الأريب .

ولكن لا يمكننا أن نغفل أن له من أصحاب الأقلام والإذاعيين من يقولون فيه قولة الحق كما يرونها ، وفي الوقت المناسب ، فتنـزل كلماتهم على قلبه برداً وسلاماً ، هؤلاء مع جمهوره الذي يحبه في المغرب من الوطن العربي والمشرق جعلوه يعيد النظر في قرار الاعتزال ويجمده ...

ولا أظن أن فريد جمد قرار الاعتزال إلى حين .. إنه تجميع إلى الأبد .. إنه لا يستطيع أن يهجر عوده، ولا يستطيع أن يهجر جمهوره .. لمن يشكو أحزانه إن وضع العود في الخزانة ؟ وفي أي بنك سيجد من الحب رصيداً مثل الرصيد الذي في قلوب الجماهير له ! إن الذي خرج ومعه طيف الموت ليذهب إلى الاستديو ويعمل دوبلاجاً لفيلم ، لا يمكن أن يعتزل وهو سليم معافى !

ولكن هل هو حقاً سليم ؟ وهل هو حقاً معافى ؟

في مقاييس الصحة هو بعض ذلك ، ولكنه في مقاييس الصحة النفسية والقلبية فهو مريض .. ففي نفسه جراح من كل الذين غدروا به ، وفي قلبه جراح من كل الذين تقلبوا له وجحدوا حبه ! ولعل هذه الجراح في النفس والقلب هي التي لا زالت ترسل أنينها على أوتار عوده فتبكي معه إذا غنى ((حكاية غرامي)) وتدمي قلوبنا (( عدت يا يوم مولدي )) ، ونرى دموعه في (( عذاب )) وغيرها مما يبدع من ألحان !

العمر به مع الفن والجمهور مديد ، صفحة الحب لم تطو ما دام قلبه ينبض ويدق ، إنه يحب الحب لأنه يحب الحياة ، ويحب الحب لأنه منجم النغم وينبوع الأحاسيس .. وهو لن يعتزل الفن ، ولن يعتزل جمهوره ، ولن يعتزل الحب ! ..

وستظل قيثارة فريد صداحة على طول المدى فإنه زهد في الزواج وإنجاب الذرية قناعة منه بالفن وإبداع الألحان ! وليفعل به الحب ما يشاء .. إنه على حالي السعادة والعذاب رحيق حياته وأنغامها !

يتبع

شكرا استاذ وليد علبى على نقل هذا الحديث لنا

» امير النغم العربي{الفصل الثاني}
» امير النغم العربي{الفصل الثالث}
» امير النغم العربي {الفصل الرابع}
» امير النغم العربي {الفصل الخامس}
» امير النغم العربي {الفصل السادس}